محمد عبدالرحمن
خمسون عامًا تفصل بين الفيلم الأول والفيلم الجديد، رغم ذلك انطلق السؤال مبكرًا، لماذا نقدم فيلمًا شاهده الناس من قبل ويمكن للأجيال الأحدث أن تعود للشريط وتعرف القصة وتتفاعل معها. يبدو السؤال منطقيًا، لكن بحسابات من أحبطته تجارب جديدة لم تكن على مستوى الأعمال الأصلية، خصوصًا فيما يتعلق بتقديم أجزاء أحدث من مسلسلات أقدم. دائمًا هناك «تقديس» لمن سبق، بالتالي لا مجال لإعادة التأويل، في حين السينما حول العالم لا تشهد فقط إعادة صنع أفلام قديمة كل فترة، بل تقديم نسخ بلغات مختلفة من أصل واحد.
بناء على ما سبق، تم التعامل بحذر بالغ مع مخاطرة المنتجة شاهيناز العقاد، التي تحمست لإعادة تقديم رواية «أنف وثلاث عيون» مرة أخرى بعد إخراج حسين كمال فيلمه عن النص نفسه عام 1972. لاحظ التأكيد على أن الفيلم الجديد مأخوذ عن الرواية، وليس عن الشريط القديم، وهو الالتباس الذي أنهته معالجة السينارست وائل حمدي للتجربة برمتها، معالجة أنقذت مخاطرة العقاد وجعلت التجربة تصل لجمهور مهرجان البحر الأحمر السينمائي متماسكة إلى حد كبير رغم الثغرات.
كثيرون اعتقدوا أننا سنشاهد فيلمًا منسوخًا من الفيلم السابق مع اختلاف زمن الأحداث، وبالتالي الملابس والديكورات وعموم التفاصيل التي تميز بين حقبة السبعينيات وأيامنا المعاصرة؛ وهو ما دفعني شخصيًا لمشاهدة فيلم حسين كمال مجددًا قبل نحو أسبوعين، لعلني أنجح في رصد اللقطات والعبارات المكررة بين الفيلمين حتى خالفت مناورة وائل حمدي التوقعات منذ المشهد الأول. نعم، هناك الدكتور هاشم ومعه «رحاب» التي انتهى الفيلم القديم بصدمة منها، لكن مؤلف فيلم «هيبتا» ومسلسلات «الطوفان» و«موجة حارة» أعاد ترتيب أحداث الرواية وتنظيم مساحات الشخصيات ليحافظ على المعنى الذي سطره إحسان عبد القدوس، لكن من خلال نص جديد تمامًا يفسد المقارنة على المشاهد المتربص ويجعل المشاهد الجديد يترقب معرفة سر الأزمة الشخصية لبطل الفيلم.
في الفيلم الذي كتبه عاصم توفيق ومصطفى كامل، كانت الشخصية الطاغية هي «أمينة» وجسدتها ماجدة الصباحي منتجة الفيلم. العلاقة الأطول بين العلاقات الثلاثة في شريط حسين كمال، هي التي بدأت الأحداث واختفت قليلاً لصالح نجلاء فتحي، ثم ميرفت أمين قبل أن تحتفظ لنفسها بحق اللقطة الأخيرة. مع وائل حمدي نبدأ من العين الثالثة، حيث يشعر هاشم بعدم قدرته على الاستمرار مع رحاب التي تصغره بـ25 عامًا فيلجأ لطبيبة نفسية لم تكن موجودة في الفيلم الأول، لتسير الخطوط الدرامية في اتجاهات مغايرة تمامًا، ونبدأ رحلة معرفة لماذا يخشى «هاشم» من الارتباط، أي أن حمدي قرر تفسير ما لم يوضحه عبدالقدوس، وبالتدريج تظهر الشخصيات الأسبق «أمينة» و«نجوى» مجددًا في حياة «هاشم» مع ظهور أوسع لعائلته، حيث دور الأب ورحيل الأم المبكر في حالته النفسية بجانب ظهور عائلة الطبيبة النفسية؛ ما أعطى للشخصيات أبعادًا مغايرة عن تلك التي شاهدناها من قبل وبدون أي إخلال بالأسس التي قام عليها نص إحسان عبدالقدوس.
غير أن إعطاء البطولة المشاركة لطبيبة نفسية تطور دورها لتحاول فك لغز حالة «هاشم» وترمي بتوقعات عدة حتى تفلح محاولاتها. كل ما سبق أدى إلى بطء ملحوظ في الإيقاع بسبب كثرة الجلسات النفسية بجانب اللجوء المستمر لتعليق «هاشم» أو ظافر العابدين على الأحداث دون موازنة الأمر بمعادل بصري مناسب؛ ما يجعل المتفرج يستغني عن الصورة في بعض الأحيان والاكتفاء بالصوت فقط، ويطرح سؤالاً حول قدرة الفيلم على حصد الإيرادات في شباك تذاكر لم يعد يرحب بالسينما الرومانسية والاجتماعية إلا نادرًا.
اختيار الممثلين جاء مناسبًا إلى حد كبير، خصوصًا بعد تغيير مساحات الشخصيات، ظافر العابدين «هاشم» قدم المعتاد، لم يقلد محمود ياسين بالطبع، لكن لا يمكن القول إنه أضاف كثيرًا للشخصية وإن فعل المطلوب كممثل محترف؛ سلمى أبو ضيف «رحاب» تواصل أداءها المميز وتؤكد على أن تطورها الملحوظ كممثلة ليس عابرًا؛ صبا مبارك «الطبيبة» كانت الأكثر حرية كونها شخصيتها مستحدثة، وساعدها البعد الشخصي على تقديم شخصية متعددة الأوجه وليس فقط الطبيب النفسي بوجهه الكلاسيكي؛ أمينة خليل في المشهد الأول تجعلك تتساءل لماذا هي، لكن ظهورها في المشهد الأخير يفسر ذلك كونها الوحيدة التي أثرت فعلاً في حياة هاشم؛ نورا شعيشع «أمينة» عبر مشهد واحد لخصت ما قدمته ماجدة الصباحي طوال فيلم كامل؛ جيهان الشماشرجي «الأم» قدمته بأسلوب يفسر حجم العقدة التي نشأ بها البطل، بجانب أصحاب الأدوار الأصغر وضيوف الشرف: سلوى محمد علي، نبيل علي ماهر، كريمة منصور، رمزي العدل، نور محمود، صدقي صخر، أحمد يوسف، والطفل سليم مصطفى، و«الكاسيتنج» المناسب يحسب بالتأكيد للثلاثي شاهيناز العقاد وأمير رمسيس ووائل حمدي كونهم شاركوا في ترشيح الفريق.
ملاحظات
أفيش الفيلم لم يعبر عن حجم الأدوار بداخله، وبشكل عام أراه أقرب لأفيشات الثمانينيات والتسعينيات رغم الحداثة التي يعكسها الفيلم.
موسيقى تامر كروان إضافة مميزة للأحداث وتؤكد بصمته التي تضيف للدراما، خصوصًا في المشاهد الحزينة التي تشهد حيرة الأبطال نحو ذواتهم ومصائرهم.
بالتأكيد يتفوق الفيلم القديم «رقابيًا» نظرًا لظروف العصر وقتها، وبلا شك انتظر جمهور الفيلم الجديد مشاهدة أكثر «حميمية» تناسب جرأة الحوار وطبيعة الحديث عن العلاقات المعقدة بين الرجال والنساء؛ فهل مارس فريق الفيلم رقابة ذاتية مسبقة، أم كان للرقابة المصرية تدخلاتها؟ سؤال أظن إجاباته ستتأخر لسنوات عندما تسنح الظروف للأطراف المشاركة في «أنف وثلاث عيون» للحديث بصراحة عن كواليس فيلم أكد أن أدب إحسان عبدالقدوس صالح للتقديم أكثر من مرة بشرط الاحتراف في كتابة المعالجة.