محمود غريب
تجتمع جملة من العوامل المتشابكة لتشكّل أسبابًا جوهرية لنجاح العمل السينمائي، لعل أهمها قصة الفيلم وطريقة المعالجة والأداء التمثيلي، لكن هذه البديهات يمكن أن تجد رفضًا تجاريًا في شباك التذاكر، إذا ما غابت الأفكار التجارية والتسويقية، وهو ما تداركه الفيلم السوداني الجديد «وداعًا جوليا».
الفيلم الذي حقق إنجازًا يقترب من الإعجاز في شباك التذاكر المصري، لا يحتفظ في دفاتره بتلك السمعة الجيدة لدى الجمهور المصري، ولكن انتزع قبل ذلك إشادة واستحسان لجان التحكيم السينمائي، باعتباره منتجًا جديرًا بالاحترام على مستوى القصة والإخراج والتمثيل.
من خلال واحد من أبرز الأفلام الروائية الطويلة، نقل المخرج السوداني الشاب محمد كردفاني والمنتج أمجد أبو العلا، صناعة السينما السودانية إلى منطقة أخرى، بعدما حصد جائزة الحرية في «مهرجان كان السينمائي الدولي»، وهو أول فيلم في تاريخ السينما السودانية يشارك في المهرجان الفرنسي العريق.
ألقى الفيلم رسالتين في غاية الأهمية، الأولى أن الفن السوداني لا يزال حاضرًا وقادرًا على أن يثبت ذاته، والثانية هي توقيت العمل الذي يتزامن مع حرب أهلية تعصف بالدولة العربية، لتثبت أن الفن باقٍ ويتمدد ويخرج الإبداع من رحم المعاناة، من خلال طرح قضية شائكة بصورة عادلة ودقيقة وحيادية، تركز على العنصر الاجتماعي تحديدًا.
من حسن الاختيار، أن القائمين على الفيلم خاضوا مغامرة جريئة لعرض تجربة سياسية وتاريخية واجتماعية لتاريخ السودان الحديث، وتحديدًا قصة انفصال السودان الكبير إلى شمال وجنوب؛ ولذلك فهو يقتحم مساحة اجتماعية غاية في الحساسية، من ناحية الصدمة التي أثارها الانقسام على مستوى القبلية المتشابكة بعموم «السودان الكبير»، وما نتج عنها من عوامل نفسية وفكرية تشكلت خلال السنوات الأخيرة.
كان الحظ حليفًا لطاقم العمل، الذي استطاع تصوير الفيلم قبل الحرب الأهلية الجارية، ويبدو أن صنّاعه التقطوا ما دار في ذهني لسنوات، فكثيرًا ما أقف أمام تجاهل صناع السينما للحالة السودانية التي شهدت أحداثًا تاريخية فارقة تصلح لإنتاج عمل فني مشوق.
ذكاء صناع الفيلم يتجسد في اختيار قصة ليست بعيدة تاريخيًا، وبالتالي فهي قريبة إلى فهم وإدراك المشاهدين حاليًا، ويقع عبء المعالجة على كيفية إخراج عمل لا يخلق حالة جدل سياسية أو اجتماعية، وفي الوقت نفسه يلقى استحسانًا واهتمامًا فنيًا، وهو ما نجح الفيلم في إدراكه.
النقطة الأبرز في هذا السياق، هو النجاح الإعجازي لثاني فيلم تجاري سوادني ينتقل لصالات السينما المصرية ويستطيع تحقيق رقم تاريخي بالنسبة للأفلام العربية في الساحة المصرية، بإيرادات لم يتوقعها أكثر المتفائلين.
ثمة جملة من العوامل التي ساعدت على نجاح الفيلم السوداني في شباك التذاكر المصري، أهمها اختيار توقيت العرض التجاري، خلال أكتوبر الماضي، قبل تمثيل السودان في «الأوسكار» أكسبه عامل تشويق لدى رواد السينما للتعرف على التجربة التي ستنتقل إلى أروقة الجائزة العالمية الأشهر، بالإضافة إلى كثافة العرض التجاري الذي وصل إلى 23 دار سينما في مختلف أنحاء مصر بعد يومين فقط من طرحه بالسوق.
ما زلت معجبًا باختيار توقيت العرض في مصر، حيث تندر المنافسة السينمائية مع عدم طرح أفلام جديدة ذات قدرات تنافسية عالية، بسبب الحرب في غزة، وبالتالي فإن الفيلم بقصته يتناسب مع الأحداث السياسية سواء على الصعيد المحلي السوداني، أو الإقليمي.
المثير للإعجاب أن الفيلم احتفظ بمكانته في شباك التذاكر لأسابيع ولم يضطر الشركة الموزعة إلى رفعه من دور السينما مبكرًا، على غرار أفلام عربية أخرى، حققت في السابق إيرادات زهيدة للغاية، وبالتالي فإن النجاح بالتراكم.
العامل الثاني – كما أسلفت – هو قصة الفيلم الإنسانية التي تجسد تحولاً تاريخيًا أدى إلى انفصال الشمال عن الجنوب، وهي قصة تبدو مشوقة للجيل الجديد لمطالعة جانب من دراما الواقع التاريخي.
على أننا لا يمكن أن نتجاهل العامل الفارق في نجاح الفيلم في السوق المصرية، وهو حجم الجالية السودانية التي تقترب من الـ6 ملايين وافد، شكلوا نحو 70% من جمهور الفيلم بدور العرض المصرية، حسبما ذكرت الشركة المسؤولة عن التوزيع، بيد أن 30% من مشاهدي الفيلم جمهور غير سوداني؛ وهو رقم كبير للغاية، أن يتحفز مشاهد عربي أو أجنبي لمشاهدة فيلم قادم من السودان.
أكثر العوامل أهمية وراء نجاح الفيلم، هو الفكر التسويقي الجيد، مستفيدًا من مشاركة العمل في مهرجان كان، وما صاحب ذلك من ردود فعل إيجابية، استغلها القائمون على العمل لتدشين حملة تسويقية مؤثرة في الجمهور العربي عمومًا، وهو ما يبرر تفوق إيرادات الفيلم على أفلام مصرية أخرى تزامن عرضها مع «وداعًا جوليا».
ما زلت مقتنعًا بأن شباك التذاكر المحلي في أي دولة غير مقتصر على المنتج الوطني حصرًا، حيث كسر العمل السوداني حاجز الخوف من المغامرة بعرض الأفلام العربية في صالات السينما المصرية. ومن ثمَّ، فإنَّ الفترة المقبلة ستشهد اختراقًا آخر بجرأة، بغض النظر عن كون القصة المطروحة غارقة في المحلية، المهم طريقة المعالجة والأداء والتسويق؛ لذلك فإنّ «وداعًا جوليا» يعني «وداعًا الخوف».