تيسير قوايد
لطالما كانت السينما مرآة المجتمع لكونها الأصدق تعبيرًا عن واقع الشعوب ومقياس مدى نموها تطورها الحضاري والثقافي، فكلما ارتفع الوعي الجمعي للشعوب زادت الحاجة إلى الفن السابع للتعبير عن قضايا المجتمع وملامسة تفاصيل حياته اليومية ونقل ما يدور في دوائره من مشكلات، وتسليط الضوء على ما يحتاج من معالجة أو تصحيح. ولما كان للسينما دور كبير وبارز في الارتقاء المجتمعي والثقافي والحسي والنفسي، أصبحت صناعة السينما في كل دول العالم، والعالم العربي خاصة، ضرورة استراتيجية لبناء فرد ومجتمع قادر على التطور والتقدم.
ولما كانت الأفلام الروائية الطويلة تحمل في طياتها أفكارًا متعددة ذات تفاصيل وحبكات وقصص متشعبة، ظهرت الأفلام الروائية القصيرة أو السينما المستقلة، رغبة في تسليط الضوء على قضايا مجتمعية معينة بشكل مكثف في دقائق معدودة؛ وهو ما جذب نوعية جديدة من الجمهور الراغب في رؤية موضوعات وشكل مختلف من السينما يقدمها شباب مبدعون من صناع المهنة.
وهذا التنوع الذي وفرته السينما المستقلة ساعد في إثراء المشهد الثقافي، خاصة في السينما المصرية، والذي شجع شباب صناع الأفلام من مخرجين ومؤلفين على خوض غمار السينما المستقلة خلال السنوات العشر الماضية واستطاعوا من خلالها التعبير عن أفكارهم ورؤاهم نحو القضايا المحلية بعيدًا عن القيود التجارية والسياسة الموجودة في السينما الروائية الطويلة.
وتتيح السينما المستقلة للشباب المخرجين والمؤلفين استكشاف أساليب جديدة ومبتكرة في السرد السينمائي وتجسيد القصص؛ لأنها تتخطى الأساليب التقليدية المتبعة في الأفلام الروائية الطويلة. هذه السرديات المختلفة تجعلنا نرى القضايا من منظور مختلف للقضايا المحلية؛ مما جعلها تجذب جمهورًا جديدًا وواسعًا.
ونظرًا لتميز الإنتاج الفني للأفلام المستقلة المصرية وقيمته الفنية العالية، دفع مؤسسات الدولة لتأسيس مهرجانات سينمائية مستقلة مثل مهرجان القاهرة السينمائي للأفلام المستقلة، الذي يعد منصة قوية لعرض وتكريم الأفلام المستقلة المصرية، والذي لاقى استحسانًا كبيرًا من الجمهور المحلي والدولي لما لهذه الأفلام القدرة على التعبير عن قضايا مهمه وتجارب الحياة اليومية للمصريين.
ولم تقتصر سينما الأفلام القصيرة المستقلة على مصر فقط، ولكن هناك تجارب متميزة في عدد من الدول العربية التي اهتمت بإبراز قضايا المجتمع وتجارب الحياة اليومية مثل: تونس والمغرب ولبنان. ففي تونس استطاعت الأفلام المستقلة أن تحظى بشعبية واسعة وتحقق نجاحًا دوليًا. وفي المغرب تم تكريم العديد من المخرجين المستقلين وعرض أفلامهم في مهرجانات سينمائية دولية. كما أن لبنان استطاعت إنتاج العديد من الأفلام المستقلة التي تعكس الواقع اللبناني وتتناول قضايا اجتماعية وسياسية هامة.
ولكن المفاجأة الأكبر خلال السنوات الخمس الماضية، هي صعود السينما السعودية، وخاصة السينما المستقلة للأفلام القصيرة. فمع عودة السينما التي تشهدها المملكة منذ عام 2018، فإنه تم إنتاج العديد من الأفلام المستقلة السعودية وعرضها في مهرجانات سينمائية دولية ومحلية، والتي تعكس قضايا المجتمع السعودي وتروي قصصًا شخصية واقعية وملهمة.
ولم يكن هذا الصعود اللافت أن يتم لولا تدخل مؤسسات الدولة الهامة والمعنية ودعمها من خلال تطوير البنية التحتية السينمائية مثل افتتاح دور سينما جديدة في مختلف المدن الرئيسية، وتطوير صالات العرض وتجهيزها بأحدث التقنيات، وكذلك تم تأسيس مؤسسات ومبادرات لدعم صناعة الأفلام المستقلة السعودية التي تهدف إلى تطوير المواهب السعودية وتعزيز الإبداع في هذا المجال الواعد.
وخلال هذا العام عززت المملكة العربية السعودية من دورها في دعم صناعة السينما المستقلة من خلال مهرجان البحر الأحمر، وإنشاء صندوق مهرجان البحر الأحمر لتشجيع الشباب السعودي من المبدعين على إنتاج مزيد من الأعمال الفنية، وذلك بإطلاق حملة لدعم أكثر من 100 مشروع بمنح تصل إلى 500 ألف دولار لكل مشروع تحت شعار «اصنع فيلمًا مع صندوق البحر الأحمر»، بالإضافة إلى إطلاق صندوق البحر الأحمر عدة مبادرات منها «مجلة الصندوق»، وهي نشرة سنوية تهدف إلى دعم هذه الصناعة. ويعمل المهرجان أيضًا على تعزيز هذه الصناعة وزيادة التبادل الثقافي حيث تجتذب العديد من الزوار من جميع أنحاء العالم للاستمتاع بالأفلام والفعاليات المصاحبة.
وتبقى الأفلام المستقلة طفلة صغيرة تنهض وتنتعش في الشاشات الكبيرة، تنتظر الدعم والنمو في مختلف أنواع السينما العربية. فنظرًا للدور الهام للسينما المستقلة في تسليط الضوء على قضايا المجتمع الاجتماعية والثقافية والسياسية ومساهمتها في إثراء التنوع الثقافي والفني في المنطقة، إلا أنها ما زالت تواجه العديد من التحديات منها البنود القانونية الرقابية على الإبداع وحرية التعبير في بعض الدول، أو نقص التمويل والدعم المستدام في دول أخرى، إلا أننا لا ننكر بعض الجهود الحثيثة لتعزيز ودعم مشاريع السينما المستقلة في بعض المناطق العربية – كما ذكرنا – والتي ما زالت تحتاج إلى كثير من الجهود لإنتاج مزيد من الأفلام وتشجيع مزيد من المبدعين الشباب.