أمنية عادل
تحتل دراما المدارس حيزًا كبيرًا من اهتمام السينما الأوروبية ربما لأنها تحتوي على كافة أشكال العلاقات وتتضح بها التباينات الإنسانية العميقة، لا سيما في ضوء مفاهيم السلطة وتداولها بين المعلمين والطلاب. ظهرت المدرسة كمكان محرك للأحداث في العديد من الأفلام مثل الفيلم الدنماركي The Hunt عام 2012، وكذلك سلسلة الفيلم الكوميدي الألماني Fack ju Göhte الذي بدأ منذ عام 2013، كما الفيلم الكرواتي The Staffroom عام 2021، أيضًا فيلم Another Round عام 2020 الذي كان يدور في فلك عالم المعلمين، وأيضًا الفيلم الروماني المثير Bad Luck Banging or Loony Porn عام 2021. هناك العديد من الأفلام التي تدور في عالم المعلمين أو داخل أسوار المدارس من بينها الفيلم الألماني The Teachers’ Lounge «ردهة المعلمين» من إنتاج عام 2023 الذي رشح للمنافسة على جائزة بانوراما الجمهور في مهرجان برلين السينمائي الدولي الثالث والسبعين.
يتميز فيلم The Teachers’ Lounge «ردهة المعلمين» بالتصاعد السريع غير المتوقع، حيث تتحول حياة المعلمة الجديدة كارلا نوفاك، التي تقوم بدورها الممثلة الألمانية ليوني بينيش Leonie Benesch من معلمة محبوبة وشغوفة بعملها إلى حالة تتكاثر حولها الأقاويل والاتهامات. تلتحق نوفاك كمعلمة جديدة في إحدى المدارس مع بداية العام الدراسي وتتقاطع مواقفها ووضوحها المشهود له مع حالات السرقة المتزايدة داخل المدرسة حتى تصبح هي نفسها المتعرضة للسرقة، لكن كونها سُرقت لا يجعل منها ضحية بل على العكس، تتحمل نوفاك المسؤولية ويتناسى الجميع أنها من تم سرقتها.
من السارق؟
منذ اللحظات الأولى للفيلم يتضح سحب بساط السيطرة التي من المفترض أن تتمتع بها كارلا كمعلمة، وذلك بعد أن يُضطر طالبان من فصلها إلى الوشاية بزملائهم للكشف عن هوية السارق. هناك العديد من العوامل التي تقف حائلاً بين كارلا وبلوغ هرم السلطة الأول كونها معلمة جديدة، والثاني ويكاد يكون أكثر أهمية كونها مهاجرة بولندية قدمت مع أهلها في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، أما الثالث فهو سبب شخصي للغاية حيث إنها لا تعرف المراوغة. تسعى كارلا لاكتشاف السارقين، لا سيما بعد تردد أقاويل عن سرقات في ردهة المعلمين أيضًا. تقوم كارلا بحيلة لم تتوقع عواقبها، لا سيما أنها تبدو في نظر البعض غير أخلاقية، ولكن هل الغاية تبرر الوسيلة أحيانًا؟
يطرح الفيلم بعض القضايا داخل المجتمع الألماني من خلال الأحداث المتصاعدة في المدرسة وفي مقدمتها اضطهاد الاختلاف، إذ يتكشف أن المتهم الأول لحادث السرقة الذي وقع مع بداية الفيلم هو «علي» طالب من أصول إيرانية قدم والداه من إيران إلى ألمانيا، لا يتعرض علي إلى التنمر من قبل الطلاب فقط، بل إلى نظرة خاصة من قبل بعض المعلمين الذين ينظرون إلى الاختلاف كسبب للاتهام.
كما يقدم الفيلم داخل أحداثه التوتر الناتج عن فقدان ردهة المعلمين السيطرة بعد انشقاق المعلمين أنفسهم في التوافق حول سبل إدارة الأزمات المدرسية، في مقابل تضاعف قوة الطلاب المستمدة من ذلك الخلل والتباين وامتلاك الحقيقة أحيانًا، كما بعد حديث كارلا للمجلة المدرسية.
نسبية القيم
خلال رحلة كارلا في المدرسة يتضح التزامها ورغبتها الدائمة في السير على الطريق الصحيح لحل المشكلات وإدارة الأزمات، لكن الأمور لا تسير على هذا المنوال دائمًا. لكشف السارق داخل ردهة المعلمين تصور كارلا بطريقة سرية فيديو بعد أن وضعت محفظتها في جاكيت على الكرسي وبها بعض النقود، يزداد الأمر صعوبة بعد مواجهة السارق المفترض وهي السيدة كون Eva Löbau، موظفة في المدرسة ووالدة أوسكار Leonard Stettnisch، الطالب الأفضل في فصل كارلا. تتحول كارلا من مجني عليها إلى جانية في نظر البعض، لا سيما بعد توقيف السيدة كون عن العمل وكذلك توقيف أوسكار بعد قيامة بأعمال تخريبية داخل المدرسة.
رغم كل ما تعرضت له كارلا تدافع عن السيدة كون وأوسكار، لأن النسبية عادة ما تحضر في خلفية أي موقف، كما أنها تحاول باستماتة زرع القيم الأخلاقية في نفوس الطلاب قبل تعليمهم علم الرياضيات وقواعده. التزام كارلا تجاه طلابها يحملها مسؤولية تجنيبهم الضغوط، حيث تجني كارلا ما زرعته في طلابها في النهاية رغم الهزيمة الظاهرية.
يتسم فيلم The Teachers’ Lounge «ردهة المعلمين» بالحيوية والحركة على صعيد الحدث والصورة أيضًا لمديرة التصوير جوديث كوفمان Judith Kaufmann، وذلك في ضوء مناخ مكان مثل المدرسة التي لا تخلو من الأنشطة والحركة، وهو ما ينعكس على صعيد الصورة السينمائية الغنية بالتفاصيل والحركة المستمرة، ما يدعم ذلك مونتاج جيسا جاغر Gesa Jäger ذو القطعات الحادة السريعة التي تعكس التوتر والضغط المتصاعد، سواء لدى كارلا، أو داخل الفصل الدراسي وردهة المعلمين والمدرسة ككل.
ملحمية صوتية
تعد الموسيقى أول العناصر التي يلتقيها المشاهد ويستشف من خلالها المناخ العام الذي يعيشه على مدار قرابة الساعة والنصف وهي مدة الفيلم، تحضر موسيقى مارفن ميلر Marvin Miller ضمن الشريط السينمائي بطريقة دقيقة ومكثفة تتواكب مع حالة التوتر المتصاعد، كما تتسيد بدورها البطولة إلى جوار عناصر أخرى مع مشهد النهاية الذي يبدو ملحميًا في مضمونه ومظهره السينمائي.
يشارك مخرج الفيلم إيلكر ساتاك Ilker Çatak، الكاتب ومخرج الأفلام القصيرة جوهانس دونكر Johannes Duncker في كتابة سيناريو وحوار فيلم The Teachers’ Lounge «ردهة المعلمين»، حيث سعى ثنائي الكتابة لفهم ملامح السلطة داخل المدارس كمكان يمكن استعارته لفهم ملامح السلطة في سياقات أكبر وأوسع من مجرد جدران المدرسة التي يقضي فيها الطلاب أيامًا وسنوات من حياتهم.
قالت المعلمة كارلا نوفاك إن ما يحدث داخل ردهة المعلمين يبقى داخل هذه الردهة، وأيضًا فإن ما يحدث في المدرسة ويعيشه الطلاب يبقى داخلهم خلال السنوات التي يقضونها في المدرسة، وأيضًا بعدما يصبحون خارج أسوارها؛ إذ قد يتركون في نفوس معلميهم أكثر من مجرد كونهم طلابًا نجباء.