عبدالمحسن المطيري
لا يختلف اثنان من محبي السينما حول موهبة كريستوفر نولان الفذة في صناعة الحكاية والقدرة على تحويل عوالم الخيال لواقع نعيشه ونشاهده في دور السينما، فمنذ رائعته الحكواتية «ذاكرة مفقودة Memento» وهو ينضج بطريقة مدروسة ومتصاعدة وناجحة على المستوى الشعبوي والنقدي.
وفي هذا العام يستمر نولان في حصد الإعجاب في فيلمه التاريخي «أوبنهايمر» الذي يرصد فيه مشروع مانهاتن الهام الذي غيّر مسار التاريخ العسكري للأبد، وبدأ بعده سباق التسلح النووي والحرب الباردة وخلاف ذلك، مع النزاعات العسكرية والسياسية بين القوى الكبرى وقتها، وهي الجانب الغربي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي بتأثير الاتحاد السوفييتي.
بعيدًا عن تكهنات أغلب المواقع التي تشير إلى فوز أوبنهايمر المحسوم للأوسكار، يبدو أن مشاهدة البريطاني نولان وهو يحمل أوسكار الأول أصبح محسومًا، خصوصا على مستوى الإخراج، ونتجه لسيناريو تحول الحلم ليصبح واقعًا بعد النتائج النقدية الضعيفة التي حصدها منافسه المحتمل الأبرز هذا العام ريدلي سكوت لفيلمه «نابليون»، والذي كان على مستوى إيجابي نقدي غير متسق مما سيؤثر حتمًا على احتمالية فوزه بشيء.
مارتن سكورسيزي يعتبر منافسًا هامًا، ولكن فوز مارتي السابق في عام 2006 يجعل أعضاء الأكاديمية أكثر تعاطفًا مع نولان البريطاني الشاب الذي أتى إليهم من خارج دائرتهم الكاليفورنية الخاصة، وتجاهلوه في مناسبات عدة، انتقاصًا في مرات، وغِيرهً في مرات أخرى، ولكن حتمًا هذا العام يصعب التجاهل بعد قدرة نولان السينمائية الهائلة في هذا الفيلم في جميع الاتجاهات، ليس فقط على مستوى النص والتمثيل، إنما الموسيقى والتصوير والديكور والمونتاج، ليكون هذا الفيلم المرحلة الحاسمة القريبة والشبيهه بمرحلة مارتن في عام 2006، أو كلينت ايستود في عام 1993، أو حتى ريدلي سكوت في عام 2000.
ويجوز وصف رائعة نولان «أوبنهايمر» بالنحت الزمني المعتاد بنفس النمط الذي قدمه لنا بشكل إنساني ممزوج مع نظريات علمية خارقة في فيلمه الفريد «interstellar». كذلك أجاد نولان بمهارة عالية ضبط الكتابة ضمن التداخل المونتاجي الزمني بين الأحداث السردية رغم المخاطرة التجارية العالية لفيلم مدته الزمنية ثلاث ساعات؛ لأننا في هذا الفيلم نتحدث عن قالب سردي يقع ضمن إطار علمي ربما يكون مملاً أو غير مفهوم للكثير ممن سيشاهد الفيلم، لذلك كان النحت في الزمن لكريستوفر نولان في هذا الفيلم فلسفيًا في قوالب سردية، وعلميًا دقيقًا في قوالب أخرى. ولكن لم يغفل قطُّ المخرج نولان الجانب الشعري والإيقاع المونتاجي الفخم الذي أضاف لمسة جمالية لحالة النص الحداثي الذي يقدمه. ولهذا، نعم لسنا فقط أمام فيلم متكامل من الناحية العناصرية الفنية والأداء التمثيلي والكتابي فحسب، إنما كان نولان أيضًا حاضرًا في الروحية الشعرية واللقطات المفاهيمية العميقة في واحدة من أفضل أفلام السير للسينما الحديثة.