سماح عادل
«شارلي شابلن» من أشهر صناع السينما في العالم، ورغم الشهرة الواسعة التي نالها والتي استمرت بعد وفاته وحتى الآن، ورغم العمر الطويل الذي عاشه، فإن مأساة مرض أمه وطفولته البائسة كانت المحرك الهام لمسارات حياته ولعمله في مجال السينما.
فشخصية الفقير المتشرد التي كانت الشخصية الرئيسية في معظم أفلامه، والهموم الإنسانية التي سوف تسيطر دائمًا على أعماله الفنية كانت محكومة بتجربة طفولته.
ولد «شارلي شابلن» في 1889 في إنجلترا، كانت أمه تلعب دور الخادمة في المسرحيات الهزلية وكانت تمتلك صوتًا عذبًا، ويصف «شابلن» أمه في مذكراته التي نشرت بعنوان «قصة حياتي» يقول: «كانت مخلوقة لطيفة تقارب الثلاثين من العمر، مع بشرة صافية، وعينين زرقاوين، وشعر كستنائي طويل يمكنها الجلوس فوقه، وكنا أنا وسيدني نحبها حتى العبادة، ومع أن جمالها لم يكن خارقًا كنا نرى فيها طيف إله».
كما يصف «شابلن» والده الذي كان سببًا رئيسيًا في بؤس طفولته: «بالكاد كنت أعرف أن لي أبا وأنا لا أتذكر أنه عاش معنا يومًا ما، هو أيضًا كان ممثلًا في مسرح المنوعات. رجل صامت، وكئيب، وعيناه قاتمتان، كانت أمي تقول إنه يشبه نابليون، كان لديه صوت بريتون خفيف، وكان الناس يعتبرونه فنانًا مرموقًا. أما المبلغ الذي كان يكسبه في تلك الفترة فأربعون ليرة في الأسبوع، وكان ذلك مبلغًا مهمًا، لكن المأساة أنه كان مدمنًا على الشرب، وذلك كان السبب وراء الانفصال بينه وبين أمي. وقد توفي متسممًا بالكحول في السابعة والثلاثين من عمره”. ويضيف عن انطباعه عن والده في مذكراته: “كانت أمي تروي عنه قصصًا تمتزج الدعابة فيها بالحزن، فهو عندما كان يشرب كان طبعه يصبح عنيفًا».
عاش «شارلي شابلن» حياة بائسة منذ سن صغيرة، فقد انفصلت والدته عن والده وهو صغير جدًا، وكان لديها طفل أكبر من رجل آخر، وتولت رعايتهما بمفردها. في السنوات الأولى من عمره كانت تستطيع أن ترعاه من عملها كممثلة ومغنية، لكن صوتها العذب أجهد من العمل، وكانت كثيرًا ما تحدث لها مشاكل في صوتها، حتى أن الجمهور كان يضحك على ذلك.
وفي سن الخامسة من عمر «شابلن» حدث موقف مضحك، حيث بح صوت أمه أثناء قيامها بالغناء أمام الجمهور، وطلبت من مديرها أن يقوم ابنها بالغناء مكانها، وبالفعل حل «شابلن» محلها وأعجب به الجمهور كثيرًا، حتى إنهم رموا بالعملات المعدنية عليه.
وعاش بعد ذلك «شابلن» وأخوه «سيدني» وأمهما حياة بائسة، حيث خسرت عملها كممثلة ومغنية، وفقدت مصدر رزقها، وأصبح عليها أن تعمل بمهنة أخرى لتعيل طفليها، في الوقت الذي امتنع فيه زوجها عن إعالتها هي وطفليها.
ومر «شابلن» بظروف قاسية تذكر تفاصيلها الدقيقة وحكاها في مذكراته، حتى إنه اضطر إلى الافتراق عن أمه وأخيه بالذهاب إلى مأوى، وعانى من الوحدة بصحبة أطفال من نفس عمره، وعاشت أمه بقسم النساء في المأوى، وأخوه في مدرسة للأطفال الكبار، وهي في قسم الأطفال الصغار في نفس المدرسة. ثم حاولت أمه جاهدة استعادة طفليها، والعمل قدر ما تستطيع. وعاشت سنوات أكثر بؤسًا كانت تعمل فيها في مهنة الخياطة، وتجهد نفسها وتعاني من سوء التغذية، ويحاول طفلها الأكبر الالتحاق بالأعمال لمساعدتها، في حين يحاول «شابلن» مساعدتها ببيع الزهور داخل البارات، لتنهار في النهاية وتصاب بنوبات عدم اتزان نفسي، تتسبب في دخولها المستشفى أكثر من مرة.
التمثيل.
كانت أمه ملهمته، فقد ساعدت «شابلن» كثيرًا على إجادة فن التمثيل، واشتعال الشغف به، كما كان أخوه أيضًا شغوفًا لأن يصبح ممثلًا كوميديًا.
في المدرسة حين كان «شابلن» في عمر التاسعة علمته أمه أحد المونولوجات الطريفة، وشاهده أحد المدرسين وهو يلقيها على صديق له، ليصبح بعد ذلك شهيرًا في أرجاء المدرسة، لأنهم كانوا يطلبون منه إلقاء هذا المونولج دومًا.
ثم اقترح والده أن يحترف «شابلن» المسرح وهو طالب، ليساعد والدته في جلب الأموال، وليحصل على مسكن وطعام، حيث عمل راقصًا في فرقة مكونة من ثمانية أشخاص.
وتظل الأيام البائسة تملأ قلب «شابلن» بالحزن، خاصة عندما يذهب أخوه للعمل في السفن، ويضطر هو إلى العمل في مهن عديدة قاسية، مدعيًا سنًا أكبر من سنه. ثم تؤخذ أمه منه ليودعوها بالمستشفى، بعد أن تسوء حالتها، ويجد نفسه وحيدًا تمامًا في الحياة.
كل تلك الأحداث التي عاشها في فترة طفولته المبكرة، خاصة السنوات التي يجبر فيها على ترك أمه والعيش مع أناس آخرين؛ لأن الحياة في لندن كانت قاسية، والفارق الطبقي كان هائلًا، فكان الناس يتحولون إلى التشرد سريعًا، بعد أن يكونوا ميسوري الحال، ولم تكن هناك رعاية اجتماعية كافية لمنع وقوع الناس في الفقر المدقع.
ذلك الفقر الذي عانى منه «شابلن» طوال سنوات طفولته، مشاهدًا أمه وهي تذبل أمامه وتدمرها سوء التغذية والأعمال الشاقة، لينهار اتزانها النفسي، خاصة مع مشاهدتها لطفليها وهما يجبران على مفارقتها، لأنها لا تملك المال لإعالتهما. كل تلك الأحداث كانت المخزن الذي يستند إليه في صناعته لأفلام ما زالت خالدة إلى الآن، حيث صور فيها الفقراء والكادحين، وصور المجتمع الصناعي الذي يطحن الإنسان، ويفقده شعوره بإنسانيته.