نرمين يُسر
كما يتخيل الغرب عن مصر أن شعبها لم يزل يركب الجمال والخيل ويتلون صلوات عندما يمرون بالأهرامات، ففي المخيلة الغربية عن السعودية ومعظم الدول العربية الخيال نفسه. عادة تكون السعودية هي أرض الصور النمطية عن رجال ملتحين يرتدون عباءات ووشاحًا على الرأس، ورجال ونساء مصلون يطوفون حول الكعبة، وحقول النفط تنير الصحراء القاحلة. أما الواقع، فهو أكثر تعقيدًا، حيث يقدم فيلم المندوب للمخرج علي الكلثمي – وهو أول فيلم روائي طويل له – عن عامل توصيل طعام «ديليفيري» سيئ الحظ يتنقل في العاصمة السعودية الرياض في تصحيح لخيال الغرب المحدود حول الثقافة السعودية والسماح لهؤلاء المشاهدين برؤية المملكة العربية السعودية بشروطها الخاصة.
يتتبع الفيلم قصة فهد «محمد الدوخي» الذي فشل في المشاهد الأولى من سرد قصته في الموازنة بين عمله كعامل توصيل وعمله الصباحي في إحدى شركات الاتصالات. لقد عمل فهد بالفعل فوق طاقته، إذ يعتني بوالده المريض في أوقات غير وقت العمل، ولكن التوازن والانضباط بين عدة أعمال لا يدوم لفترة طويلة، فتشاجر فهد مع رئيسه في العمل وتم فصله عن الشركة ولم يبقَ لديه سوى العمل الإضافي كعامل توصيل، لكن فهد يريد العودة للعيش وسط مجتمعه المعتاد عليه، يلاحظ زميله المندوب يبيع الخمور لرجل أعمال ثري فيتبعه فهد ربما من منطلق الفضول أو تجربة حظه، فتلاحق فهد المصائر سيئة الحظ. ولا يثير الفيلم فضولاً حول ماذا كان فهد سيخطئ، بل حول الكيفية التي سيخطئ بها، وبهذا المعنى يشترك فيلم «المندوب» كثيرًا مع أفلام مثل scarlet street لفريتز لانج، تلك الدراما التي تتبع أحمق متعاطفًا، لكنه مثير للشفقة، يتخذ قرارًا سيئًا تلو الآخر. الشخصية محكوم عليها بالفناء، لكن الأمل في الشخصية يعتمد على احتمالية إنقاذ نفسه قبل فوات الأوان.
لا تجعل هذا الوصف يبدو دراما قاسية، لكنه مليء بقدر كبير من الكوميديا، والكوميديا هنا تعتمد على محمد الدوخي الذي يتمتع بوجه معبر وعينين كبيرتين وابتسامة حزينة تجعله محبوبًا. الكلثمي ومدير التصوير أحمد طاحون يركزان على وجه الدوخي عن قرب ويراقبانه في أثناء ما يشاهد الشخصيات الأخرى ويعاني من الإهانة تلو الأخرى، تنتظر الكاميرا والمشاهدون أن تفسد ضحكة فهد وتمتلئ عيناه بالغضب ويتحول شعوره في بعض المواجهات إلى الإحباط.
في مشهد بداية الفيلم يجسد هذا النهج البصري، يُطلب من فهد التوقيع على خطاب الاستقالة ليوفر على الجميع شعور الحرج، يسلم قلمًا وتلوح الكاميرا على وجهه وهو ينظر إلى القلم ويحاول الإمساك به ويحاول ثانية حتى ينفجر في غضب.
المشهد التالي على موعد مع حبيبته مها «سارة طيبة»، والذي اعتقد أنه موعد غرامي، لكنها جاءته مع زملاء في العمل، وبدلاً من قضاء وقت الطعام في الحديث المرح أصبح حديثًا طويلاً من الشكوى من رئيسهم الغربي في العمل، وتنتقل الكاميرا بين الزملاء الذين ينتقلون بين اللغة العربية والإنجليزية متجاهلين فهدًا، بالإضافة إلى أن تناول الطعام بالخارج وفي هذا المطعم يعد بمثابة مناسبة كبيرة بالنسبة له، فيركز الكلثمي على وجه فهد الذي يحاول الحفاظ على ابتسامته على عكس المشهد السابق لا ينفجر غضبًا، ولكن ينتقل من الترقب إلى الارتباك إلى الإحباط بتعبيرات رائعة بعينيه فقط.
يجسد المشهد أيضًا الاختلافات الطبقية الناشئة في الثقافة السعودية، فيذهب فهد إلى المطعم مرتديًا أفضل عباءة ووشاح الرأس، لكن مها وزملاءها يظهرون بملابس أكثر حداثة ويعبثون بهواتفهم الحديثة، ولا ترتدي النساء غطاء الرأس أو العباءات السوداء المحلية، وذلك مصرح به في التغيرات الثقافية الأخيرة، فضلاً عن أنهم يتحدثون الإنجليزية، فهم بالفعل ينتمون إلى فئة اجتماعية مختلفة عن فهد، وبغض النظر عن مدى احترام مها له، إلا أنها تعلم أنها الأفضل وهو مجرد عامل توصيل أو مندوب يحلم بأن يكون شيئًا أكثر من ذلك.
الكلثمي مخرج مثقف متأثر بكلاسيكيات الأفلام الأميركية والأوروبية التي تمثل حماقة بطل العمل وفشله الذي يكتسب تعاطف الجمهور مثل تعاطفنا مع لص الدراجة للإيطالي فيتوريو دي سيكا، والفيلم المصري “ورقة بوستة” لفؤاد المهندس، والعديد من نوعية الشخوص الحمقى الذين أحبهم الجمهور، حيث حرص على الحبكة الواضحة والبناء البصري لمعظم المشاهد، والنقطة الأقوى في وصف الفيلم هو مزج الفكاهة والشفقة في استكشاف سقوط الرجل وقوته.