إيمان الخطاف
معظمنا تعرّف على نيويورك وسيول وباريس وبيروت والقاهرة، في مرحلة مبكّرة من حياته، عبر الأفلام التي شاهدها، وأعطت طابعًا سينمائيًا لكل مدينة على حدة. فنيويورك عرفناها كمدينة صاخبة ومستيقظة على الدوام، أمَّا القاهرة فسمعناها بضجيج السيارات وازدحام الشوارع، وروما فهمنا أنها متحف تاريخي مفتوح على مصراعيه للمارة. كما أن هناك مدنًا ألفناها قبل أن نزورها، انجذبنا إليها أو كرهناها، عرفنا جنونها أو كآبتها، وكل ذلك عبر فيلم تم تصويره فيها.. لكن ماذا عن مدننا السعودية؟
المُبشر هنا أن مدننا هي الأخرى بدأت تشكّل هوية سينمائية لها عبر الفن السابع، وهذا ما أظهرته بوضوح الأفلام السعودية المشاركة في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بجدة، بدورته الثالثة، وتنوعّت أماكن التصوير في هذه الأفلام، وما بين كل مدينة وأخرى كان الجمهور يتساءل: أهذا حقًا موجود في السعودية؟ أين تقع هذه المدينة تحديدًا؟ وهل نستطيع زيارتها؟… إلخ.
في «مندوب الليل» اعترف صنّاع الفيلم مبكرًا أنهم حاولوا إظهار سحر مدينة الرياض، العاصمة النابضة في الحياة والمزدحمة طوال الوقت، وهو ما حدث فعلًا في الفيلم الذي تم تصويره في الشتاء، أجمل وقت تظهر به الرياض؛ حيث يرى المشاهد فعاليات موسم الرياض الاحتفالية بشكل عفوي، غير مقصود. كما ظهرت الأبراج الشاهقة والمطاعم الفاخرة، جنبًا إلى جنب مع الأحياء الشعبية والبيوت البسيطة، بما يجعل المتفرج يستوعب بوضوح كم هي الرياض مدينة عصرية وعاصمة حيّة.
وفي فيلم «إلى ابني» شهق الجمهور متعجبًا خلال العرض مما شاهده من جمال باذخ في أبها، حيث تم تصوير معظم الفيلم، ما بين الجبال والأودية والمناظر الخلابة على السفوح، علاوة على الأبنية التراثية العريقة والفريدة في محافظة رجال ألمع. ورغم تواضع الفيلم فنيًا، فإن تصويره في أبها يكاد يكون نقطة القوة الكبرى فيه، في الاختيار الذكي لمكان التصوير، الذي شد الأنظار نحو أبها البهيّة.
وفي فيلم «هجان» اتسعت الرؤية كثيرًا، بجمال صحراء تبوك التي شهدت تصوير الفيلم، حيث الرمال الذهبية والجبال الراسية والمساحات الشاسعة المليئة بالغموض وكنوز الصحراء، في إبهار بصري خلاب أظهره مخرج الفيلم أبوبكر شوقي، الذي استفاد جيدًا من مقومات المكان الجميل الذي تم تصوير الفيلم فيه، علاوة على سباقات الإبل الضخمة التي مثلت هي الأخرى حالة سينمائية جديدة للمتفرج العربي والعالمي.
ولعل من أبرز المقولات الدائمة ذات الصلة بنقد الأفلام، هي «أن المدينة في حد ذاتها تعد شخصية مستقلة من شخصيات الفيلم»، ويبدو هذا الكلام صحيحًا إلى حد كبير. فالمدن هي الخلفيات الآسرة لتصوير الأفلام، بكل ما تحويه من هوية وثقافة وإرث وتاريخ وفرادة، وصانع الأفلام الذكي هو من يستثمر هذا التنوّع في إضفاء صبغة جديدة على مدن بلاده، بما يتناسب مع فكرة الفيلم، ويضفي الكثير من الاختلاف والرؤية الإبداعية لموقع التصوير.