غفران قسَّام
لكل حكاية حدث، ولكل حدثٍ مكان مهما تنوعت الأساليب الفنية في العرض. عبر تلك الفرضية الجمالية، ينطلق رائد المنهج الظاهراتي غاستون باشلار Bachelard Gaston في دراسته، ويهتم برؤية ملامح العالم الخارجي للمكان وانعكاس دلالاته على ملامح العالم الداخلي منه. وهو يرى أن جماليات صورة المكان تكمن في شعريته ودفئه داخل الحالِم أو المبدع الشاعر. وبوصف الرؤية الشعرية هنا عن المكان في التصوير السينمائي، يمكن مقاربة فكرة الشاعر بالمُخرِج الذي يبدع في إخراج العرض عن المكان بعدسته، ولقطته، ونوع تصويره المَشاهد تصويرًا احترافيا بين تصوير بانورامي، وآخر دوراني، أو جوي، أو يدوي؛ وبين سريع وبطيء… إلخ. وتختار الرؤية هنا عينة من نتاج السينما المحلية لعام 2023م، إذ شهدتْ تنوعًا ونوعية، وبروزًا في بوادر ظهور أعمال نموذجية في الإخراج لاهتمامها باختيار المكان، ونوع إخراجه.
ويلاحظ أن العينة الآتية هي اختيار عشوائي لنتاج غزير شهدته المملكة العربية السعودية سينمائيًا، أحصتْ نتاجه الحِراكات الندوية المنعقدة لهذا العام. إن نتاج السينما خلال مسيرته بلغ ألف فيلم سعودي لخمسمئة وعشرين صانع فيلم سعودي. وتشير الندوة إلى أكثر من خمسين موضوعًا مَطروحًا في الأعمال. كما يلاحظ أن أكثر التصنيفات إنتاجًا في الدراما 53%، والوثائقي 20%. ويبدو ظهور الكوميديا والرسوم المتحركة بنسبة 3% لكل واحد منهما. أما فئات الأفلام البارزة أكثر، فتبدو ظاهرةً في الأفلام القصيرة بنسبة 72%، ويليها الوثائقي القصير بنسبة 22%. وتعتني العينة هنا، باختيار خمسة أعمال متنوعة يظهر فيها توظيف المكان وفق مستويات مختلفة في السينما، وهي كالآتي:
اسم الفيلم | سليق | عياض في الرياض | تحت سماء واحدة | الخلاط | طريق الوادي |
نوع الفيلم | أنيميشن- قصير جدًا | روائي طويل | وثائقي | كوميديا سوداء | مغامرات |
طبيعة المكان | ترابي | ترابي | سهول – ترابي | ترابي | جبلي – ترابي |
الرؤية الإخراجية | فانتازيا | ترابي | هوائي | مائي | فانتازيا |
مستوى المكان | درامي | درامي | تشكيلي | أيديولوجي | درامي |
عبر رؤية باشلار لجماليات المكان، يتفق مع ما كتبه أريك نويمان في كتاب إيرانوس السنوي 1955م، ويبرهن فيه أن كل الكائنات الأرضية الراسخة كالبيت مثلاً، تخضع لجاذبية العالم: الهوائي والسماوي. فالبيت المتجذر في الأرض ينبثق عنه غصن حساس للريح أو حجرة علوية قادرة على سماع همس أوراق الشجرة. ومن ثَم، ينتزع البيت حصته من السماء؛ لأن السماء بكاملها سقيفة له. ولعل تلك الرؤية تظهر بوضوح في فيلم “تحت سماء واحدة” للمُخرج مجتبى سعيد، الذي يعرض المكان الألماني (غير عربي) بأسلوب مختلف. فالأرض صورة شِعرية في الفيلم تعكس حركتها الإنسانية في شهر رمضان والعيد المبارك في صورة تلامس السماوات العليا رغم اختلاف ألسن المسلمين، وبلدانهم، ولغتهم. كما وظف الزمان ولونياته في العدسة؛ مما أخرج المكان برؤية ترفع من وعي المتلقي وتصل به لحالة الاطمئنان السماوي. كما يظهر أداؤه الإخراجي للمكان كيانًا هوائيًا سماويًا وفق مستوى تشكيلي يجذب المتلقي للتأمل حول العلاقات الإنسانية في وشائج الفيلم. ويلاحظ ذلك التشكيل الجمالي مع ترتيب الرؤية الزمنية ليوم الصائم في رمضان: السحور، فالصيام، ثم الإفطار. ويمكن لمس معانيها التشكيلية كقطعة بصرية جمالية تعكس روح المكان الذي يقصده المُخرِج.



ولهذا، يصنف باشلار تلك الرؤية للمكان المتجذر مع الكيان السماوي أنها في وضعية مُلهِمة ليست نمطية تتيح رؤية المكان بامتداد طولي له فيحصل فيه عنصر الألفة وروحه. أما نقل الصورة المكانية إخراجيًا للفانتازيا، فيظهر توظيفها وفق المستوى الدرامي الاجتماعي غالبًا كما في عمل “سليق” للمخرجة أفنان باويان. وكذلك في “طريق الوادي” للمُخرج خالد فهد. وفيه تختلط العناصر الكونية، لكنها تتناسب بعضها مع بعض في غاية التأثير الدرامي. وهو المستوى الذي ظهر فيه كلا العمليْن من تأصيل فكرة التعايش مع اختلاف الأجناس، واختلاف الفئات المجتمعية. مما عكس نوعًا من الوسيط الهوائي غالبًا في تلك الفانتازيا تتحرك فيها أنفاس الزمن في الدراما بحرية مفتوحة لزمان آخر. وكأن المُخرج بعدسته الشاعرية قادر على أن يمنح الثقة في الحياة عند المتلقي، ويلقي عبر نافذة السينما تحيّته!
أما الصورة النمطية في المكان، فيلاحظ توظيفها في عمل “عياض في الرياض” للمُخرج راكان، وعمل “الخلاط” للمُخرج فهد العماري. إذ يظهر عرض الصورة النمطية بتصوير احترافي متحرك، ودوراني، ومتراوح بين السرعة والبطء. كما يظهر توظيف المكان متجذرًا بكيانه الترابي الأصيل كالبيت القديم أو البيت المحلي. لهذا، يُحسن المُخرجان الإصغاء لأصداء أحداث البيت وما فيه من حكايات متناقضة كالخلاط، وما فيه من أحداث تتردد بين الواقع واللاواقع، وكعياض في الرياض الذي يستقيم توازن الحكايات فيه عبر تأثير درامي أو أيديولوجي كما في الخلاط يؤدي الوظيفة التعبيرية والتأثيرية معًا. ويصنف باشلار تلك الصورة النمطية أنها تعكس صورة المكان عرْضية تمتد فيه الكاميرا باتساع ارتداد الصوت والأحداث فيها. ولعلها تنقل المتلقي لحالة تُخالف توقعاته كما في فيلم “الخلاط” الذي جذر المكان بكيان مائي تختلط فيه الأحداث عبر وسيط المادة السائلة لتتمازج فيه هُوية الشخصيات الاجتماعية: أب، ابن، أم، مع الأحداث وفق أفكار تتصادم بين القديم والحديث.
مما سبق، تكشف تجارب هذا العام في سينما المملكة العربية السعودية عن مدى اقتراب الإخراج من تصوير حكايات الأمكنة كعين بشرية تهتم بتأسيس تلك العلاقات بين المشهد، والمكان، وبقية العالم. لهذا، أضافت مظهرًا تأثيريًا وأكثر تركيزًا على فكرة اللون في عدسة الإخراج وربطه بموضوع الفيلم ومناسبته له؛ مما قدم للجمهور ثقافة بصرية عن المكان في السعودية تقترب من أُلفته للأمكنة، وتعبرُ بلغة إنسانية مشتركة يستطيع فهمها ومعايشتها.
باحثة دكتوراه مهتمة بالدراما والسينما