غفران قسَّام
ينتهي الفيلم، لكن تبقى في الذاكرة ما يلامس القلب والروح منه! ولا أكثر التصاقًا وشعورًا من حميمية الإنسان تجاه تاريخ هويته لمكانه الأول، وعمق حضور أجداده فيه. تقترب المشاهد السينمائية بتصويرها الجمال التراثي السعودي حين تحكي عن دفء ذاكرة الجمهور عبر تصوير البيت العتيق، ومظاهر الشكل البدائي لمكان الأجداد مع تحريك المشاعر الإنسانية وفق دراما اجتماعية تتحدث عن لون عاطفة الرجل والمرأة في أحياء نجد الشعبية مع سياق دخول الحضارة والتعليم والوعي الصحي إليها. وهو ما يصوره فيلم «نجد» للمخرج سمير عارف كانطلاقة تساهم في العرض السينمائي الأول داخل المملكة العربية السعودية، وكعرض دولي حضاري يقدم هُوية العاصمة بمونتاج فني شغوف في صناعة تفاصيل المكان التراثي الشعبي؛ إذ يجذب الخيال البصري مع دخول الكاميرا المترقب لأحداث حكاية نجد عبر تفاصيل المكان، بدءًا بساقية الحقول في الرياض، ومزارع نخيلها الخضراء، وحصاد التمور، وأزقتها الرملية الحميمة، ووسائل مواصلاتها في خمسينيات القرن الماضي ترسمها كاميرا الإخراج مع أحداث درامية كتبها خالد الراجح وفق حوارات ظهرت متناغمة مع كتابة عدسة الفيلم.
منذ مطلع المشاهد في أحد مستشفيات الكويت – 2019م، تنتظم العناصر الفيلمية البصرية والسمعية عبر تجاورها وتسلسلها وضبطها الزمني مع صوت نبض البطلة نجد التي تشعر بتواتر أخبار الإذاعة والتلفزيون من: فنون، وموسيقى، وأخبار التطور الحضاري في الرياض؛ لتصحو على إثرها وهي تسترجع ذكريات بيتها في أحيائها الشعبية التي دخلت حكاياتها سبات النسيان منذ 68 عامًا! ويتألق دور الافتتاح مع حضور سيدة الشاشة الخليجية حياة الفهد، التي يتضافر صوت روايتها الأحداث، مع أدائها المُلهِم في توظيف مونتاجي يعيد بناء سِحر البيت الشعبي، وجدرانه الطينية، وأسواقه كسوق باب المصمك، وتطور كتاتيب المدرسة. إذ يؤدي مونتاج حكاية الفيلم الوظيفة الدلالية في ربط العلاقات بين المكان كبيت عائلة سليمان وابنته نجد وعائلة البطل خالد، وبين الأشياء كالألواح المدرسية وساعة الجيب العتيقة، وبين الأشخاص كشخصية الأب سليمان وعمله في البشت، وشخصية أستاذ الكتاتيب الجديد وشخصية قطاع الطرق، والشخصيات الأخرى من قبائل أخرى. إذ يظهر تجميع تلك العناصر وغيرها في أداء مونتاجي منسجم مع عقدة الحكاية والمقارنات والصدامات ليؤدي أيضًا الوظيفة التعبيرية بين لقطات تتجاوز السببية كمشهد زواج نجد الفجائي من رب عمل والدها رغم خطبتها من خالد، ومشهد نهاية خالد غير المتوقعة بتوليد منطق شعور تجريدي آخر عن حكايته مع نجد التي أحبها وتفانى لأجلها: أرضًا، وعاطفة.
ومما يلاحظ أيضًا، أنه لا يكفي أن تصطف أمام المُشاهدين إطارات تسلسلية سردية للمَشاهد وفق براعة فيلمية لونية فقط، بل يلزم معها رؤية إخراجية تربط تلك السلسلة بالإيقاع. ذلك الإيقاع إما أن يظهر وجدانيًا، أو موسيقيًا، أو زمنيًا يضمن إدراك العلاقات بين اللقطات والتوافق بين مدة كل لقطة وحركات الانتباه التي تبثها وتشبعها عند المشاهدين ودلالاتها. إذ يعكس هذا الإيقاع وعيًا نفسيًا وإحساسًا بالمدة الزمنية يتشارك بها المتلقي مع الإخراج في تذوق جمال المشاهد بصريًا وقيمة، لا سيما مع قرار البطلة الإنساني في وقف مكان ذكريات زمنها الجميل في نجد للجمعيات الخيرية؛ كي تمتد آمال ذكرياتها بمستقبل يمتد خيره إنسانيًا وحضاريًا في وطن أحبت رياضه، وأوصت بمدفنها فيه. ويعد الفيلم غير ربحي كونه إحدى المبادرات السينمائية الأولى، كما شارك بهويته الوطنية في مهرجان تشانغتشون السينمائي 2020 بالصين، وهو حاصل على جائزة الصقر الخليجي للأفلام الطويلة في مهرجان العين السينمائي للعام ذاته.