ريما التويجري
كتب المخرج الراحل ستانلي كوبرك سيناريو فيلمه البايوغرافي في عام 1961، تاركًا معه مقدارًا وافرًا من الأبحاث تضم خلاصة وافية من محتويات 10 كتب مختلفة حول حياة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، كون سيرة الأيقونة السياسية والعسكرية الفرنسية فتنت المؤرخين وصانعي الأفلام على حد سواء لعدة قرون؛ إذ يستعد المخرج ريدلي سكوت بعرض فيلمه “كيتباغ” لنابليون ببطولة المذهل خواكين فينيكس، في أواخر هذه السنة كفيلم ملحمي ضخم تموله منصة Apple TV+، وسواء كان سكوت اليوم، أو كوبرك في السبعينيات، أو آبل غانس في عشرينيات القرن العشرين، فسيرة نابليون ملهمة للعديد في بروزه للسلطة بعد أن كان جنديًا بسيطًا، في انتصاراته، في صولاته وجولاته في أوروبا، إلى جانب هزائمه.
في 1993، تم العثور على نص كيوبرك المذكور سابقًا من قبل مسؤول لاتحاد الفنانين يدعى جيف كليمان في منجم ملح بالقرب من هاتشيسون -كانساس، حيث كانت العديد من الشركات تضم أرشيفاتها فيه، كما وُجدت نصوص غير منتجة لوودي آلن وساموئيل بيكيت أيضًا.
يحتوي نص كوبرك على استحضار أصيل للقصة الملحمية الكاملة من النشأة عام 1769 إلى وفاة بونابرت سنة 1821 الميلادية، بدءًا بطفولته، واتباعًا بالعوامل الاجتماعية والرومانسية والسياسية والعسكرية المعقدة التي جعلته إمبراطورًا لفرنسا، فضلاً عن دراسة شخصيته بشكل علم – نفسي دقيق وواقعي.
يُزعم أن الأسماء المقررة الأكثر ترجيحًا لتجسيد بونابرت في فيلمه كانت ديفيد هيمينغز وجاك نيكلسون. أما أودري هيبورن، فتم اختيارها لدور زوجة نابليون جوزفين، حيث قيل إن نابليون أحب جوزفين لبقية حياته، ويقال إن اسمها كانت الكلمة الأخيرة على شفتيه عند وفاته، لكن تضم مادة كيوبرك المكونة من 149 صفحة تقريبًا، من بينها رسالة أودري ترفض تجسيد دورها كجوزفين.
كما يوجد مجموعة كبيرة من كتب كوبريك والبالغ عددها 276 عن الإمبراطور الفرنسي الملونة بالكثير من العلامات والملاحظات، فقد قرأ تقريبًا كل كتاب صدر عنه باللغة الإنجليزية وعن تلك المرحلة التاريخية، والتقى بعدد من الأساتذة والمؤرخين، بل تشكلت في جامعة أوكسفورد لجنة خاصة من أهم الباحثين للإجابة عن جميع أسئلته لمساعدته في كتابة نصه السينمائي الذي تحول لاحقًا إلى كتاب! ففيها يمكنك رؤية دقة المخرج، وكمية المواد التي جمعها حتى قبل أن يبدأ.
كثيرًا ما يُعتقد أن نابليون كان يمكن أن يكون فيلم كوبرك الأكثر شهرة وعظمة وتأثيرًا، حتى إنه يطلق عليه “the greatest film never made” حيث لم ينسَ محبّو المخرج وهواة الأفلام بشكل عام السيناريو على مدار الأربعين عامًا السابقة. فعند اطلاعك عليه ستجده مليئًا بمشاهد المعارك الملحمية الفخمة، ومنها حصار طولون 1793 الذي صنع اسمه ورحلاته إلى إيطاليا ومصر.
كما يزدهر بالآلاف من التفاصيل، حيث انطلق ستانلي لعامين من البحث المكثف، وبمساعدة العشرات من المتخصصين؛ منها مقابلات أجراها مع أستاذ أكسفورد فيليكس ماركهام.
خلال هذه السنوات اكتسب مجموعة لا مثيل لها من الأبحاث، ومواد ما قبل الإنتاج، بما في ذلك ما يقرب من 15000 صورة استكشافية للموقع، حيث كان لدى المؤلف خطط للتصوير في فرنسا، و17000 من الصور النابليونية، ودراسات الأزياء، والتسلسل الزمني، والمزيد.
على الرغم من أن المخرج الكبير كان شغوفًا بالعمل ولفترة طويلة، ومع قوة إمكانياته بالصنعة مما جعل لأفلامه مردودًا مغريًا للمنتجين في شباك التذاكر كالملحمة الفضائية 2001: A Space Odyssey؛ فإنه في نهاية المطاف لم ينفذ مشروعه بسبب التكلفة الباهظة، حيث لم يتبقَ لستانلي في مرحلة ما قبل الإنتاج سوى اتفاقية مع MGM منتجي فيلمه الخيال – العلمي السابق، لكن وبشكل مأساوي لم يتمكن من إقناعهم. وللأسف، لم يكن من المقدر أن يرى فيلم كوبريك النور، لأن استوديوهات MGM، ثم United Artists، اعتقدت أنه كان محفوفًا بالمخاطر في وقت كانت فيه الأفلام التاريخية لا تستهوي الجماهير.
من الجيد، أننا قد نشاهد المشروع العظيم الذي لم نشاهده قط على الشاشة الكبيرة، قريبًا، بفضل ذي المسيرة الإخراجية المتألقة، والصديق القديم لكوبرك “ستيفن سبيلبرغ”. ففي السنوات التي تلت وفاة ستانلي عام 1999، قدّم العديد من المخرجين اهتمامًا بتولي نص نابليون، كان باز لورمان أحد المرشحين الأولين لإخراج وتوجيه العرض، في حين أبدت HBO اعتناءها بتطويره وإنتاجه وجعلت كاري فوكوناغا مخرجًا له، وستيفن سبيلبرغ مترأسًا فريق الإنتاج في 2016، لكن ولسبب ما، لم تنجح تلك الشراكة أبدًا.
عوضًا عن ذلك، أكد سبيلبرغ من جديد في شهر فبراير 2023 عند حديثه بمهرجان برلين السينمائي، أنه يعمل على تطوير مسلسل محدود من سبعة أجزاء، مستندًا إلى السيناريو الأصلي لستانلي كيوبرك، وبإنتاج ضخم من HBO، متعاونًا مع عائلة الراحل كريستيان كوبريك وجان هارلان، لكن حتى الآن لم يصرّح عن كيف ومتى ستتشكل هذه السلسلة.
وفي حديثه مع هيئة الإذاعة البريطانية عام 2019، ذكر هارلان، قريب وصديق كوبريك الذي عمل معه لفترة طويلة، بأن السلسلة التلفزيونية ستكون الطريقة المثلى لإحياء النص. كما صرح آنذاك: “TV now is technically superb, and a series of many hours and chapters is the ideal format for Stanley Kubrick’s Napoleon”، نظرًا لكونها تمنح المشاهد الحرية في اختياره لوقت المشاهدة، لا سيما بعد ظهور منصات البث التي تمكّن المشتركين من متابعة السلسلة بأكملها في أي وقت، وأي مكان. كما أنها تجذب المتابعين للعيش داخل القصة والتأثر فيها، خصوصًا مع قصص كنابليون التي تحمل كمًا غزيرًا من الأحداث والتفاصيل.
وفي سابقة عن الحدث الحالي، قد سحر المخرجان الكبيران كوبرك وسبيلبرغ عشاق السينما بأفلامهم المتميزة، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتسلم ستيفن مشروعًا طوره ستانلي حيث عملا سابقًا معًا في فيلم الدراما والخيال العلمي A.I. Artificial Intelligence عام 2001.