أمنية عادل
وسط الغابات الخضراء الكثيفة يتجول جان صاحب إحدى مزارع السكر الغنية حاملاً على كتفيه صبيًا صغيرًا، نكتشف فيما بعد نسبه الذي يعود إليه. يجوب جان ونجله باحثين عن فريسة متوحشة لملء شبكتهم بها، يقع نمر في الشباك ويحمله الخدم، هؤلاء الذين يختلفون عن سيدهم في كل شيء: في الهيئة والصحة وحتى النظرة للحياة من حولهم.. هكذا يستهل الفيلم الهولندي «أحلام سعيدة Sweet Dreams» الذي شارك في مهرجان لوكارنو السينمائي في دورة عام 2023، للمخرجة Ena Sendijarević إينا سنديجاريفيتش، مشاهده الأولى حيث الطبيعة الصامتة المتوحشة التي تبتلع كل من يقترب منها في صمت مطبق.
تستوحي سنديجاريفيتش أحداث فيلمها وعالمها من المستعمرة الهولندية في الشرق الهندي القديم مع مطلع القرن العشرين، حيث عام 1900 الذي شهد على ارتفاع صيحات المستعمرين في وجه الملاك الأصليين لما عرف فيما بعد بدولة أندونيسيا، ذلك البلد الغني بالتضاريس الخضراء التي تخيم على كل شيء وتجلب معها الشرور أحيانًا كما تعد منبعًا للخير. إذ نعمت تلك المستعمرات بالسكر الوفير، كما تمتعت بجمال خاص يختلف عن أصحاب البشرة البيضاء القادمين من الشمال وهو ما جذب جان Hans Dagelet إلى سيتي Hayati Azis الخادمة الإندونيسية التي جلبت له صبيًا.
زوجة بدرجة خادمة
يعلم جان ابنه كيف يصبح مستعمرًا، وهو ما يبدو جليًا منذ لحظات الفيلم الأولى، حيث هيأ له المجريات حتى يوقع بالنمر في البرية ويتربع على عرش مسيرة مقدسة تبشر بوصول مستعمر جديد، مع هذا يعيش الصبي كارل Rio Kaj Den Haas حياة مزدوجة بين تعاليم والده الاستعمارية ومرافقته لأمه التي لا تزال خادمة في البيت تقدم ما يجب للسيدة الزوجة الشرعية أجاثاRenée Soutendijk مثل إعداد الشاي في الصباح ومعاشرة زوجها في المساء.
تبقى سيتي على هذه الحال وكأنها تتسيد الموقف في صمت، ومع توالي مشاهد الفيلم يُطرح سؤال: من هو السيد؟ ومن هو الخادم حقًا؟ تزداد قيمة هذا التساؤل مع تصاعد حدة المفارقة في حياة سيتي التي تعيش كخادمة وسيدة في آن واحد، حيث تقوم بما يفعله الخدم، لكنها لا تعطي هذا الشعور وكأنها تترفع عن الدخول في معركة خاسرة. يتغير كل شيء مع وفاة جان، أو بالأحرى التسريع بموت من قبل زوجته أجاثا، التي تتأمر مع سيتي حتى تعبر كلتاهما إلى حياة أخرى بعد جان المستبد. يوصي جان بمزرعته لنجله الصبي وهو ما يثير غيظه وحفيظة ابنه الأكبر كورنالز Florian Myjer القادم من هولندا مع زوجته الحامل.
رقعة النفوذ
يتهاون كورنالز في البداية بالصبي كارل وعالم الخدم القادم منه حتى يكتشف أنه مجرد ضيف لهذا الصبي مزدوج الأصول. تتباين العلاقات بين الخدم والسادة وتتداخل حيث تختلف الصراعات مع رقعة النفوذ المتزايدة للخدم كارل وسيتي ومن يحيط بهم من أصحاب مثل ريزا Muhammad Khan الذي يحب سيتي ويتوق إلى العيش بجوارها، بل والهرب معها كما عرض عليها قبل وفاة السيد وذلك للتخلص من الذل المستدام، لكن سيتي كانت تدرك أنها المفضلة والمالكة حتى إن كان ذلك بطريقة صامتة.
تتباين ملامح العلاقات داخل القصر ومزرعة السكر، فلمن الملك اليوم؟ هل يعود إلى أجاثا السيدة التي تتوق للسكر الكثير في كوب الشاي، أم جوزيفين Lisa Zweerman زوجة كورنالز القادمة من الشمال وتتوقع أن تكون المالكة لكنها تقع فريسة للبعوض الذي يلتهمها حتى يكاد يشوهها، أم أنه يعود إلى سيتي تلك التي تمتلك خطوط اللعبة وتحركها في صمت نظرًا لامتلاكها الورقة الرابحة «كارل» وهو ما تدركه جوزيفين وتتصور أنها تستطيع مقاسمة سيتي كل شيء.
منذ اللحظة الأولى يهتم الفيلم بمظاهر الكولونيالية والتراتبية بداخل هذا النظام المعقد، وهو ما يظهر على صعيد العلاقات، حيث ينصاع كورنالز إلى الواقع وتستميل جوزيفين ريزا بعد أن تفقد ثقتها بالنفس بسبب البعوض والحمل وضعف شخصية زوجها، في حين يرفض ريزا المخلص لسيتي. تشهد الصورة السينمائية أيضًا رصدًا لهذه المتغيرات والتباينات في العديد من المشاهد في مقدمتها مشاهد الحفلات، حيث تشهد ساحة بيت جان حفلاً مهيبًا يعم بالحاضرين والأطعمة المقدمة لأصحاب البشرة البيضاء، هذه الساحة نفسها التي سرعان ما تشهد أيضًا حفلاً راقصًا لا يقل صخبًا عن حفل أصحاب البشرة البيضاء، لكن هذه المرة يزخر بالملاك الجديد، أي الخدم الذين باتوا يعيشون في نعيم كارل ووالدته، لكن يظل السؤال: لمن الغلبة؟ تأتي الإجابة مع طلقة كارل التي تستقر في قلب ريزا الذي يشعر أنه ينافسه على أمه.
صورة عذبة
يعتمد الفيلم على قلة الحوار والتعبير من خلال الصمت والأداء التمثيلي، حيث يوظف السرد وتصاعده لقراءة الفيلم وطبقاته المتوارية، والذي يعود إلى مخرجة الفيلم وكاتبته أيضًا Ena Sendijarević إينا سنديجاريفيتش، التي كونت صورة سينمائية شديدة العذوبة والتناسق البصري واللوني الذي ظهر في صورة Emo Weemhoff إيمو ويمهوف، وكذلك مونتاج Lot Rossmark لوط روسمارك الذي عكس شاعرية وحساسية الصورة وما تحمله من معانٍ درامية مستترة.
على الصعيد نفسه أدَّى الصوت بشقيه الموسيقى للموسيقي Martial Foe مارتن فو، وشريط الصوت، دورًا في التماهي مع أحداث الفيلم وبيئته الطبيعية القابعة في الغابات الخضراء، وكذلك التعبير عن حالات التوتر والغضب وغيرها من الرغبات المتصارعة داخل شخوص الحكاية.
منذ بداية الفيلم يتساءل المشاهد لمن هي الأحلام السعيدة التي يتمناها الفيلم في عنوانه، يتضح ذلك مع النهاية التي تختار سيتي رسمها في صمت أيضًا وهي تحمي نجلها الصبي حتى وإن ضحت بنفسها بعد أن شعرت أن الحياة لا قيمة لها بعد وفاة ريزا، ربما لم يكن ريزا هو السبب الأول فيما أقدمت عليه سيتي، لكنها تحمي نجلها من لعنة البيت الذي شهد عذابها وهي تئن في صمت.