مشاعل عبدالله
ما الذي يمكن أن يجمع بين فرجيينا وولف ومحمد خان؟ فرجينا المتوفاة في 1941 ومحمد خان الذي أبصر النور بعد عام واحد من رحيلها؟ يرافق حضور اسم فرجيينا معاني ومفاهيم متعددة ترتبط بتجربتها الأدبية وشخصيتها، مثل النسوية، والتمرد على الأنماط والقوالب السردية والشخصية، والتعقيد، والانتحار كهاجس يراودها في رسائلها وكوسيلة اختارتها لبلوغ النهاية بجيوب مثقلة بالحجارة. الانتحار كان حاضرًا في مسيرة خان السينمائية كطريقة للتعبير عن الانكسار والهزيمة في فيلم «زوجة رجل مهم»، وفيلم «موعد على العشاء». بالإضافة إلى الانتحار يلتقي خان مع فرجيينا في طريقة تناول الشخصية بطريقة أكثر عمقًا وتعقيدًا من السرد السطحي الأحادي الأفق.
لا تبدو السينما عادلة في توفير مساحة واسعة لتطور الشخصيات النسائية، وإيضاح عمق تفاعلاتها، وتعقيد علاقاتها. فكما ذكر المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس في حديث له «أنه غالبًا ما يتم تصوير النساء دراميًا على أنهن ربات بيوت أو صديقات أو مادة للمتعة؛ لذلك أحاول المساهمة في إظهار تعقيدهن وفظاعتهن وروعتهن كأي إنسان آخر». في السينما المصرية يقدم خان تجربة تشابه تجربة فيرجينيا في عمق تناولها لموضوع الصداقة واكتشاف النساء هويتهن من خلال هذه العلاقة وتطور الشخصية عبر الزمن من خلال التجارب، بالإضافة إلى نزوع الشخصيات للتمرد والحرية والاستقلالية.
قيمة الصداقة تبدو من قيم خان الأثيرة، ويتضح ذلك من خلال علاقته الخاصة مع المصور سعيد الشيمي الذي نشر الرسائل التي تبادلاها فيما بينهم في سلسلة من 3 أجزاء تتيح لنا التعرف على خان وأزماته وأحلامه، والتي انعكست على أفلامه ومثلت هاجسًا يود دومًا التعبير عنه. يملك خان من رهافة الحس والقدرة على اقتناص التفاصيل وفهم الشخصيات ودوافعها الكثير، مما مكنه من تقديم علاقة الصداقة بين النساء وتعقيداتها وأهميتها في حياة المرأة من خلال فيلم «أحلام هند وكاميلي»، وفيلم «بنات وسط البلد» بزاوية مختلفة عن عدسات أغلب المخرجين العرب.
في «أحلام هند وكاميليا» يأخذنا خان لعلاقة بين هند الأرملة القادمة من خارج القاهرة للعمل في المنازل وكاميليا التي تعاني من مسؤوليات وتسلط أخيها العاطل وزوجته وأبنائهم. تمثل هند الشخصية الساذجة الباحثة عن الحب، أمَّا كاميليا فهي الشخصية المتمردة الباحثة عن الانطلاق وامتلاك حريتها واستقلاليتها؛ لذا هي تفضل المغامرة واكتشاف الآخرين والشقق من خلال العمل في الشقق المفروشة بدلًا من الالتزام بالعمل مع عائلة واحدة. يبدأ الفيلم بمدينة الألعاب «الملاهي» التي سنكون على موعد معها في الربع الأخير من الفيلم. تمثل العائلة لكلتا السيدتين عبئًا نفسيًا وقيودًا مخفية وغيابًا لمفاهيم الدعم والمساندة. فالرجل في حياة هند يمثل الدناءة والخسة، فهو إما خال يستغلها، أو حبيب يتسرب من بين يديها كالزئبق بعد أن يتسبب لها بالمتاعب ويعاكس صديقتها. أمَّا كاميليا، فوجود الرجل كان صورة من صور العجز، فالأخ عاطل والزوج بخيل، حتى بقية العلاقات النسائية في الفيلم لا يمثل تقاطعها مع الصديقات مساحة مريحة وآمنة، فهي إما زوجة أخ متسلطة، أو صاحبة عامل متطلبة.
تبدو الصداقة في هذا الفيلم مساحة رعاية ودعم، فتحضر تفاصيل الرعاية الأمومية من خلال الصور التي يقدمها خان لعناية كاميليا بهند، مثل تهدئة روعها، وتمشيط شعرها بعد قيام حبيبها بسرقة المنزل الذي تعمل به وهروبها إثر ذلك من المنزل؛ خوفًا من الاتهام بسرقة المقتنيات الثمينة. هذا الفعل يرمز إلى علاقة خاصة بين الأم وابنتها، فكل النساء يحملن ذكريات خاصة لهذا الوقت الخاص والحميمي بينهن. خان يعبر عن الأمومة بمعناها العاطفي والشاعري وليس البيولوجي؛ لأن كاميليا في الفيلم سيدة تعاني من العقم وعدم القدرة على الإنجاب لكنها تمارس العطاء والرعاية لصديقتها هند، وبعد ذلك لابنة هند «أحلام» التي كانت ثمرة مشاعر حب جارفة في لحظة ضعف. تبدو الأمومة عند خان في هذا الفيلم هي رمزية المقدس وصورة من صور الارتباط والتوحد، الذي لا يشترط أن يكون بين الرجل والمرأة، لكنه بين الصديقتين واضح وجلي. تمثل الطفلة «أحلام» المستقبل المجهول والأحلام المكبوتة بداخلهن بسبب ظروفهن الاقتصادية والاجتماعية التي تستفزهن للمغامرة وتحقيق كل ما رغبن به. لذا، لا عجب أننا حين نعود لمدينة الملاهي المكان الذي ابتدأ منه الفيلم، نرى صورة الطفولة واضحة وجلية في تصرفاتهن، بكل ما تمثله الطفولة من حرية وانطلاق وغياب القدرة على حساب العوائق. ينتهي الفيلم بمشهد أعتبره من النهايات الساحرة لخان، حيث البحر والاتساع والحرية وشعور الطمأنينة الذي يعقب الخوف من ضياع «أحلام” التي سبقتهن في الوصول إلى الشاطئ وكأن خان يقول لنا إن الحلم هو ما يقودنا ويحررنا من كل ما يحيط بنا، وأنه حري بنا اللحاق بأحلامنا حتى لو «فقدنا” الأشياء الثمينة في الرحلة، فالأهم ذواتنا والرفقة الجيدة.
الصداقة في الفيلم لا تقتصر على النساء، لكنها حاضرة بين «عيد» حبيب هند وصديقه أنور، ولكن هذه الصداقة تبدو هشة في مقابل الصداقة النسائية ولا تحمل ذات العمق والتشابك. وكعادة خان في التعبير عن حبه للقاهرة مدينته الأثيرة ومهاراته في التصوير الخارجي، نجد أن جزءًا من السرد يدور في الشوارع، وأن الشارع بكل ما يحمله من دلالات من خلال الناس والمباني ووسائل المواصلات وأكشاك الشاي والباعة المتجولين، هو اختزال وتعبير عن الحياة المحيطة في شخصيات، ويبدو هذا واضحًا وبشكل أكبر في فيلم «بنات وسط البلد».
يحرق خان المراحل في فيلم «بنات وسط البلد»، فيعرف بشخصيات الفيلم الرئيسية بطريقة واضحة ومباشرة من خلال أصواتهن لا من خلال الأحداث والآخرين كما حدث في فيلم «أحلام هند وكاميليا». هذا الوضوح والمباشرة يناسب الفتيات في منتصف العشرينيات، مقبلات على الحياة، ومستعدات لخوض التجارب دون النظر إلى الماضي، أو التقاط الأنفاس للتعلم من التجارب. فحتى العلاقة بين البطلات ياسمين وجمانة تجربة اندفاعية، بطلها الحيز المكاني الذي يجمعهن برتابة يومية في مواعيد المترو؛ حضورهن الصاخب يدفع شابين صديقين لمحاولة التعرف عليهن، وتكون الاستجابة على هيئة مزاح، فتقوم ياسمين بإعطائهم رقم هاتف صديقتها، وترد جمانة على هذه المزحة بذات الطريقة؛ لتشكل هذه المزحة إطارًا لأحداث ساخرة بين البطلات والشابين وتعاطيهم مع الحياة. تبدو العائلة في فيلم «بنات وسط البلد» قيدًا والتزامًا ومرادفًا للسلبية؛ الأب في حكاية جمانة غائب وراحل، وعند ياسمين هامشي بلا دور، ولا حضور فاعل في وسط أسرته، فهو مشغول مع زوجته الثانية السرية. والأمهات مغيبات بفعل عجز الذاكرة أو عجز القدرة والتكوين الاجتماعي لدرجة أن الأم لا تملك الحرية التي تملكها ابنتها في تدخين السيجارة. الأم في كل الأحداث متفرجة، لا تتخذ قرارًا، وربما المرة الوحيدة التي قامت بها بفعل مبادر كان ذبح الوزة «أهواك» للاحتفاء بقدوم الأب، وهي تقدم صورة نمطية عن الأم الشرقية التي تقدس حضور ووجود الرجل، بغض النظر عن الثمن المدفوع الذي ربما يكون مشاعر ابنتها. تأثير العائلة السلبية في فيلم «بنات وسط البلد» لا يختلف كثيرًا عن تأثير العائلة الخانقة والانتهازية في فيلم «أحلام هند وكاميليا» الذي يقود بناتهن للبحث عن يد صديقة تتكئ عليها، أو عاطفة رجل عابر.
المشاركة هي وجه للصداقة عند خان، ويتضح ذلك في تفاصيل متعددة مثل: مشاركة السماعة لسماع ذات الأغنية في المترو، وأكل الآيسكريم، وشراء الملابس سويًا، وحتى ارتداء نفس الملابس، التي تناقض الفكرة السائدة عند أغلب الرجال، والتي هي محل تندرهم أن المرأة لو رأت سيدة ترتدي ذات الملابس التي ترتديها في مناسبة ما، فسيتسبب ذلك في غضبها وإحباطها بسبب شعور الغيرة. لكن خان يقدم الغيرة بين الصديقات في سياق آخر من خلال علاقة الأنثى مع الرجل ومساحة الحرية في تجاوز الحدود التي يرسمها المجتمع ومقدرتها على ذلك. والمشاركة عند خان لا تقتصر على الأفعال أو التصرفات المحببة، لكن ياسمين مثلًا تلتقط الرواية التي كانت تقرؤها جمانة وتقرأ بضع أسطر منها، رغم أن ياسمين لا تحب القراءة. اللافت أن الرواية كانت رواية «الحب تحت الأشجار” للكاتب إسماعيل ولي الدين، الذي قدم أعمالًا أدبية ساهمت في خلق حكايات سينمائية مثل: فيلم «الباطنية»، و«درب الهوى»، و«حمام الملاطيلي»، و«حارة برجوان»، ثم غاب عن المشهد اختيارًا وطوعًا ابتداء من عام 1992. يشترك خان مع إسماعيل ولي الدين في محبة ليلى مراد، ولأن أفلام خان تولي أهمية كبرى للصوت ويحضر كشخصية مستقلة ويمنح الحكاية بعدًا آخر، فمثلًا في فيلم «خرج ولم يعد» كانت أغاني أحمد عدوية رمزية عن عشوائية وصخب المدينة. دومًا ما كانت أغاني ليلى مراد حينما تحضر في أفلام خان، ترتبط باللحظات الجميلة والعذبة، ودلالة على محبته لها وتأثيرها في وجدانه. قام خان بإهداء فيلم «في شقة مصر الجديدة» لروح ليلى مراد.
النساء في «بنات وسط البلد» داعمات محبات مثل صاحبة الصالون ونسمة المطربة في الكورال، حتى أخت ياسمين الصغيرة قادرة على الرعاية والحب، وعلاقة الصداقة معقدة يتخللها الكثير من النزاع والحب والدعم والغيرة والمصارحة التي تبدو في بعض الأحيان جارحة. ويركز خان على ثيمة أن الصداقة هي الرابط القوي في حياة الفرد ولا بد من غرس جذورها جيدًا حتى تصمد في وجه لحظات الغضب والضعف.
الصداقة بين النساء هي علاقة معقدة وذات أوجه متعددة، حتى في طريقة تعامل النساء حال انتهاء الصداقة مختلفة عن تصرفات الرجال في ذات الموقف. قلة من الأعمال الأدبية والسينمائية قادرة على تلمس أهميتها ومواضع القلق والعقبات والآثار الإيجابية التي تمنحها صداقة النساء للنساء. وجود الصديقة يمنح الدعم النفسي والعاطفي ومشاركة التجارب. المرأة أكثر ارتياحًا في علاقتها بمثيلتها مقارنة بعلاقتها مع الرجل؛ لأن العلاقة مع الرجل تفرض عليها معايير معينة جمالية، بالإضافة إلى مفاهيم مرتبطة بالإنتاجية والقوة والقدرة والتنافس. أما العلاقة مع المرأة، فهي مساحة تكسر طوق الوحدة والانعزالية، ورابطة داعمة وراعية وتبادلية أكثر من علاقتها مع الرجل التي ربما تميل الكفة لطرف دون الآخر. هذا الأثر الإيجابي عن صداقة الإناث لا يقتصر على البشر، لكن بعض الدراسات على الحيوانات أثبتت أن الصداقة بين الإناث في مملكة الحيوان تحمي من العدوان الذكوري وتزيد من فرص السيطرة على الموارد، وزيادة فرص البقاء والنجاة لصغار الحيوانات.
جين فوندا في لقاءات متنوعة تبرز أهمية هذا النوع من الصداقات بين النساء، حتى إنها تعزو نجاحها ووجودها الفعّال لصداقاتها النسائية، ومن أشهر الصداقات تأثيرًا في حياة فوندا صداقتها مع الممثلة ليلي توملين. وتذهب فوندا بعيدًا في تقديرها لهذا النوع من الصداقات، فهي تعزو طول عمر النساء مقارنة بالرجال لهذه الصداقة المحتوية على الأحاديث العميقة، والتحليل، والتفاصيل، والتكاتف، والدعم والاحتواء.
وفي خضم حراكنا السينمائي نتمنى أن يكتب للسينما السعودية مخرج عذب كمحمد خان، قادر على التعبير عن تفاصيل العلاقات بين الإناث في مجتمع يحمل خصوصية وتعقيدات مختلفة عن المجتمعات الأخرى، وصراعات النساء في إثبات هويتهن ورحلتهن في تحقيق أحلامهن.