عبدالله الزيد
عندما نشر أندري بريتون بيانه «السرويالي» في 1924م، كان الواقع الفني في أوروبا والعالم أجمع يعج حينها بالتنظيمات والتقاليد الفنية الراسخة التي كانت قائمة بمباركة المؤسسات الثقافية البيروقراطية بطريقة لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها. وقد جاء هذا البيان الثوري للحركة السوريالية بتشجيع ودعم من أهم معارضي الواقعية الفنية المخرج الروسي «أندري تاركوفسكي» ليكون بمثابة وقفة احتجاج في وجه ما اعتبر «التقاليد غير النزيهة» للواقعية الفنية، كانت تقف خلفها تقاليد برجوازية ومؤسسات جعلت من الفن صناعة محكمة لا يمارسه إلا المتخصصون.
خلال تلك الثورات الفنية الشاطحة في العشرينيات والثلاثينيات بزغ نجم المخرج الإسباني لويس بونويل بعد أن جمعه لقاء صداقة مع رائد من رواد الحركة الفنية السوريالية أبي شنب جنان العظيم «سيلفادور دالي». لتثمر هذه الصداقة عن أول أفلام بونويل المجنونة «كلب أندلسي»، وهو فيلم جاء كإرهاصة لولادة مخرج حازت أفلامه عدة جوائز منها أوسكار أفضل فيلم. وتقوم حبكة هذا الفيلم القصير على مشاهد مقطعة وغير مرتبة من بقايا أحلام الصديقين «دالي وبونويل». إذ كانت الحركة السوريالية متأثرة بأهم اكتشافات مدرسة التحليل النفسي للعالم النمساوي المعروف زيغموند فرويد.
بونويل الذي شهدت حياته الكثير من المتاعب والتنقلات لدرجة أنه كان يضطر أحيانًا إلى حمل السلاح في جيبه، استلهم مشاهد أعماله من الرموز والأحلام اللاواعية؛ ليؤكد مقولته الفنية الأساسية بأن الأعمال التي نشاهدها في السينما وتنقل لنا الواقع الاجتماعي، إنما تخفي خلفها نوايا محافظة لرموز الهيمنة مثل: رجال الدين، وحماة التقاليد، وقبلهم التاجر البرجوازي المنافق. ومن يشاهد فيلمه «El» عن حكاية ذلك التاجر المتدين المهووس وكيف يتمتع بقدرة غير عادية على النفاق الاجتماعي، يمكنه أن يلتقط كل تلك الدلالات الثابتة في جميع أعماله. كما هو فيلمه الآخر«سحر البرجوازية»، الذي يحكي بشكل ساخر قصة ستة أصدقاء من الطبقة البرجوازية يريدون تناول طعامهم في أحد المطاعم الفاخرة، لكنهم يواجهون العديد من العقبات السوريالية الغريبة تمنعهم من تناول طعامهم، لينتهي الفيلم بمشهد سوريالي آخر، حيث يرى الأصدقاء أنفسهم يسيرون في طريق غير معروف ومشوش بطريقة تعكس التفكك الذي تعانيه البرجوازية بكل متعلقاتها.
أخيرًا، مثلت أعمال بونويل – الأشبه بالخيال – ما يمكن أن يطلق عليه بأنه إنتاج «اللاوعي» والكبت الاجتماعي في عصر مضطرب ومتحول، وكانت كلها بلا استثناء أفلامًا شاطحة بما يكفي لدرجة أن تبقى في ذاكرة السينما الخالدة، ولتدخل بعض أعماله ضمن قوائم المشاهدات الأشهر كقائمة «ستيفن شنايدر» و«بيرمير» لأكثر الأفلام الصادمة عبر التاريخ. وليودع بعد ذلك هذه الحياة بمثل ما استقبل به من شقاء ومتاعب وتغريب.