إيمان الخطاف
«اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس».. هذه أحد شعارات الثورة الفرنسية التي تعد واحدة من أهم أحداث التاريخ البشري، لأن أثرها انعكس على العالم أجمع، وما زال باقيًا إلى اليوم، بعد أن اضمحلت سلطة الكنيسة وتغيرّت الممالك الأوروبية، وكانت هذه الثورة هي لحظة البداية التي اختارها المخرج العبقري ريدلي سكوت في فيلمه الجديد «نابليون».
دون أي تمهيد أو مقدمات، قدم سكوت شخصية نابليون بونابرت، باعتباره رجلًا يعرفه كل سكان كوكب الأرض، حيث افتقد الفيلم مراحل الولادة والنشأة والعائلة والتشكّل الفكري والسياسي، ففي المشهد الأول يخرج الشاب العسكري نابليون «خواكين فينيكس»، بين جموع الثوار الفرنسيين، متأملًا لحظة إعدام ماري أنطوانيت في المقصلة، حيث يبتهج الرعاع والمعدمون، بينما هو يقف بوجه خالٍ من أية تعابير.
وعلى الرغم من كثرة المغالطات التاريخية في الفيلم، وعدم منطقية ثبات شكل خواكين فينيكس منذ ريعان شباب نابليون وحتى وفاته بعمر 51 عامًا، إلا أن الإبهار البصري لريدلي سكوت يشفع له بتجاوز عدد كبير من الأخطاء، خاصة في مشاهد تصوير الحرب فوق الجليد، والقذيفة التي ضربت صدر الحصان، واندلاع حريق موسكو، وجميعها مشاهد أظهر فيها ريدلي سكوت براعة غير اعتيادية، لكنه هزم نابليون الذي قدمه في صورة الشخصية الهلامية التي ظهر بها خواكين فينيكس، بملامح باردة، ونظرات باهتة، وحالة عدم الاكتراث التي تجتاحه في أصعب الأوقات.. الرجل الذي تسبب بقتل ثلاثة ملايين جندي لم يكن هناك ما يحرك مشاعره عدا عشيقته جوزفين، وهي نقطة الأساس التي اشتغل عليها ريدلي سكوت في خطين جمعهما الفيلم: نابليون القائد العسكري ونابليون العاشق، وإن طغى الثاني على الأول.
بدا خواكين فينيكس وكأنه طفل كبير، يهدد مساعده بحرمانه من تناول الحلوى عقابًا له بعد أن أخبره بخيانة زوجته جوزفين، ويضع يده على أذنيه لحظة انطلاق القذائف المدفعية ببراءة مصطنعة، ويلتهم الطعام بشراهة وبلاهة بعد هزيمته الكبرى في معركة واترلو أثناء تبادله الأحاديث اللطيفة مع الدوق ولينجتون الذي انتصر عليه، وهذا اللقاء لم تذكره كتب التاريخ ولا يُصدقه العقل، خاصة أن هذه الهزيمة مثلت نهاية حقبة نابليون في التاريخ الأوربي، وبالتالي استحالة تعاطي نابليون معها بمثل هذه التصرفات الساذجة.
كما لم يركز ريدلي سكوت على الحروب النابليونية، رغم أنها المنجز الأوضح في تاريخ نابليون المحنك عسكريًا. وبتجريده من سر نجاحه هذا، فإننا نغدو أمام عاشق أبله تتلاعب به عشيقته التي تخونه أمام الملأ، وتعرضه لنقد الشعب وتهكم الصحافة، ثم تقول له «أنت لا شيء بدوني». هذه العلاقة السامة التي جمعته مع جوزفين «فانيسا كيربي»، كانت نقطة الضعف الوحيدة لنابليون، مما يعني أننا أمام فيلم يُضخم نقطة الضعف، ويُظهر البطل بصورة الأحمق والرجل الشهواني، وهي أيضًا معلومة تفندها الكثير من المراجع التاريخية.
وهنا تنبغي الإشادة بالأداء العظيم لفانيسا كيربي، في دور المرأة اللعوب القادرة على هزيمة القائد الذي لا يُهزم، وهي التي تكبره بعدة سنوات، وسبق أن تزوجت وأنجبت قبله، وأُعدم زوجها بتهمة خيانة الثورة الفرنسية، وكل هذه الأحداث لم تستطع أن تُبعدها عن فؤاد وعقل نابليون، الذي كتب لها رسائل مليئة بالحب والغرام.. وربما لو كان الفيلم عن «جوزفين» لكان أفضل دراميًا، في سرد القصة بعين المرأة البسيطة التي تحوّلت فجأة إلى إمبراطورة فرنسا، إلا أنه من المفهوم أن اسم جوزفين لن يكون جاذبًا مثل نابليون.
السرد السينمائي لقصة نابليون يُسطّح هذه الشخصية المعقدة، ويقدم الكثير من المواقف دون سياق مفهوم، صحيح أنه ليس عملًا وثائقيًا، لكنه كان يتطلب حبكة جيدة لفهم العلاقة الغامضة ما بين نابليون ووالدته، خاصة أن جوزفين أشارت في أحد المشاهد إلى تعلقه الكبير بها، وكانت والدته سببًا في إنهاء زواجه من جوزفين التي لم تستطع إنجاب وريث العرش.
وربما ضعف الحبكة يعود لتقليص مدة الفيلم إلى ساعتين ونصف، مع ترقب النسخة الطويلة «4 ساعات» التي ستعرض على منصة Apple TV+، إلا أنه كان بإمكان صناع الفيلم أن يقدموا نسخة أكثر متانة لصالات السينما، وإن كانت أطول قليلًا. ورغم ذلك، فإن الفيلم إجمالًا كان تجربة ممتعة، خاصة مع الموسيقى البديعة التي صاغها مارتن فيبس ومنحت مشاهد الفيلم شعورًا مهيبًا وفريدًا من نوعه.
بقي القول إن هناك لحظات خالدة مر عليها الفيلم سريعًا، من ذلك اللوحة التاريخية «تتويج نابليون» التي رسمها جاك لوي دافيد، لحظة إعلان نابليون إمبراطورًا لفرنسا في كاتدرائية نوتردام بباريس، بجوار زوجته جوزفين، عام 1804، حيث لم تكن هناك كاميرات ومصورون، وهذه اللوحة الضخمة نقلت منذ سنوات طويلة إلى متحف اللوفر، حيث توجد اليوم.