د.أشرف راجح
يمثل فيلم «أنيماليا» أو «فيما بيننا»، وهو الاسم الذي عرض به تجاريًا في التاسع من أغسطس الماضي بدور العرض الفرنسية، التجربة الأولى في مجال الفيلم الروائي الطويل للمخرجة المغربية الشابة «صوفي علوي»، وهي مؤلفة ومخرجة مغربية ولدت بمدينة الدار البيضاء، وقضت طفولتها بين المغرب والصين، ثم بعد الدراسة في باريس عادت للعيش في الدار البيضاء سنة 2015، حيث أخرجت فيلمين وثائقيين هما: «أطفال نابلس»، و«الأمواج أو لا شيء»، وأفلامًا روائية قصيرة مثل: «حلم سندريلا» و«كنزة دي شو»، وقد فاز فيلمها القصير الأخير «لا يهم إن نفقت البهائم» بجائزة لجنة التحكيم الكبرى لمهرجان صندانس بالولايات المتحدة الأميركية سنة 2020، وهو ذاته المهرجان الذي احتضن العرض العالمي الأول لفيلم «أنيماليا» في مطلع هذا العام.
الفيلم، وهو ينتمي تصنيفًا لأفلام الخيال العلمي الممزوجة بالهلع، يدور حول «ايتو» زوجة شابة حامل من أصول متواضعة متزوجة من «أمين»، زوج ينتمي لعائلة برجوازية ثرية، تتركها العائلة في القصر المنيف وحدها ويذهبون إلى مدينة «خريبكة» لمتابعة أنشطتهم المالية، ولكنها تضطر إلى اللحاق بهم بعد أن أذيعت بيانات حول حدث غير طبيعي «أشبه بغزو لعناصر من الفضاء الخارجي»، مصحوب بعواصف مناخية. والفيلم كله يدور أثناء رحلتها الشاقة تلك، بين الطرق المقفرة والأخطار المحدقة، لا يساعدها سوى راعي غنم شاب «فؤاد»، تدور بينهم حوارات كثيرة أثناء تلك الرحلة حول مفاهيم الفقر والغني والإله والرحمة، حتى يصلا إلى حاجز المدينة المحتشد بالقوات العسكرية التي تمنع العوام من المرور، ولكن زوجها الذي كان ينتظرها ينجح في تمريرها من الحاجز. ولكنها لا تشعر بالراحة وسط العائلة البرجوازية التي تتعامل من الأساس معها بجفاف، وخاصة أم زوجها التي لا تنظر إليها إلا باعتبارها وعاء يضم حملهم الثمين. يشير الفيلم أثناء أحداثه، ثم قرب النهاية، إلى انتشار صفوف النمل الكبير الذي يستشري كأنه إنذار بالفناء. وبالفعل «يختفي» الجميع من على سطح الأرض، وتبقى البطلة الشابة «ايتو» مع طفلتها والراعي الصالح «فؤاد» في الوادي الممتد، وكأنهم يعيدون الخلق من جديد.
فيلم «أنيماليا» فيلم يبدو مع المشاهدة الأولى له يحمل قدرًا كبيرًا من الغموض وهي سمة حداثية في السينما المعاصرة التي تتمرد على الشكل التقليدي لحكي القصة السينمائية الذي استهلك على مر العقود بنيانه. ولكن مع الولوج أكثر في تفاصيله نجده محملاً بعدد كبير من الرسائل ذات الخطر مما يجعله نموذجًا جيدًا لسينما ما بعد الحداثة التي تمزج مضموناتها العميقة في إطار تعبير سمعي بصري له طبيعة خاصة في التلقي. يعكس الفيلم الصراع الطبقي في صورة جلية كأنه فيلم من أفلام «النقد الاجتماعي». فنرى معاناة «ايتو» التي انتقلت من رفاهية حياة الأرستقراطية التي برعت المخرجة في تصويرها سابقًا، إلى شظف عيش الفقراء أثناء رحلة النجاة. هذا الشظف التي اعتقدت أنها قد تخلت عنه إلى الأبد حين تركت أباها البسيط وانتقلت إلى حياة الأثرياء، الذين لم يهضموها قط كما لم تبلعهم هي. في تلك الرحلة تفقد «ايتوا» مالها، كما تفقد «إيمانها» البسيط الذي تمارسه العائلة الثرية في صورة شعائر وممارسات. أما علاقتهم بالفقر والفقراء، فتتلخص في إعطاء «الصدقة» لهم، تلك الأوراق الخضراء التي يأبى أن يمد «فؤاد» يده لها بعد أن حاول «أمين» أن يمنحها له في مقابل مساعدته لزوجته. كل هذا يأتي في «إطار» فيلم تشويقي ممزوج بأساس من الخيال العلمي الكارثي، أو أفلام «الدستوبيا».
في ستينيات القرن الماضي ظهر مصطلح «الأنا مالية» كنوع من النحت اللغوي في الصحافة المصرية للتعبير عمن يتخذ موقفًا أنانيًا غير مبال بالمصلحة العامة أو مصلحة المجتمع في مقابل مكاسبه وفائدته الشخصية. ولعل هذا هو الخطر الأكبر الذي يهدد الجنس البشري فعليًا بالفناء بصورة أكبر من أي خطر آخر طبيعي أو خارجي، أو حتى من الأوبئة أو الذكاء الصناعي. إن فيلم «أنيماليا» سواء فسرت اسمه بهذه الحالة من الأنانية أو بالاشتقاق اللغوي له من «أنيمال»، أي «حيوان»، قدّم لنا قصة رمزية أو «أمثولة» Allegory عن مصير الاستهلاك والمستهلكين، وكيف ستختفي البرجوازية العليا في فوهة عدم إنسانيتها وأنانيتها؛ فقيمة «الفردية» وتحقيق النجاح الفردي واكتساب المتعة الفردية. تلك القيم الأساسية التي بنيت عليها الحضارة المعاصرة التي نحياها، يجادلها بقوة هذا الفيلم ما بعد الحداثي المراوغ، بل ويدحضها، وهو يطلق نفير التحذير من أن ما بنى الحضارات هو العمل «للآخر»؛ وأن ما سيقضي على البشرية هو الأنانية وحب التملك.