مشاعل عبدالله
تشكل الأسرة نواة المجتمع وركيزة تكوينه، فكل ما يكتنف الأسرة من مشاكل وتحديات هي مؤشرات على المشاكل التي يُفترض أن يهتم بها صناع القرار الذين من صلاحياتهم رسم خطط التنمية وعلاج المشكلات. أمَّا في السينما، فالعائلة تمنح صانعي الدراما الفرصة لتقريب العدسة على المجتمع واستعراض مشاكله من خلال مجموعة من الشخصيات المتنوعة، وربَّما المتناقضة في حيز مكاني واحد؛ مما يمكن السيناريست والمخرج من تقديم عدة رؤى أو حلول لذات القضية.
تعتبر السينما من أهم أدوات القوة الناعمة التي تساهم في التعريف بثقافة المجتمعات وإبراز التكوين النفسي والاجتماعي لأفرادها، وهي أيضًا فضاء واسع غير محدود يُمكّن المبدعين من سرد حكاياتهم كما يرونها.
بسبب تأخر دخولنا كسعوديين في هذا المجال مقارنة بالدول المحيطة بنا في الشرق الأوسط، ترتب على ذلك أن حضورنا كان بعدسة الآخر، فحضرنا في الدراما إمَّا سطحيين أو سفهاء يتسلون في ممارسات تهدف إلى هدر المال والبحث عن المتع السريعة واستغلال حاجات الآخرين مثل فيلم «الريس عمر حرب» للمخرج خالد يوسف، وفيلم «لحم رخيص» للمخرجة إيناس الدغيدي، وفيلم «طير إنت» للمخرج أحمد الجندي، وفيلم «كباريه» للمخرج سامح عبدالعزيز، و«عندليب الدقي» للمخرج وائل إحسان.
كان حضورنا فرديًا يغلب عليه العنصر الذكوري ولا يعكس الصورة العائلية أو الروابط الأسرية وما ينتج عنها من مشكلات، فيما لا يتجاوز الحضور النسائي في الدراما العربية التي قدمت الشخصية الخليجية بشكل عام 12%، بحسب دراسة ميدانية قام بها الدكتور محمود حسن إسماعيل والدكتور حسن فراج حسن من جامعة عين شمس ونشرت العام الماضي.
نتائج هذه الدراسة تعزز أهمية الاستثمار في قطاع صناعة السينما والأفلام السعودية حتى نملك حق رواية حكايتنا كما نحبها أن تروى، وحتى نبرز ونظهر تنوع النسيج الاجتماعي ومشاكلنا وهمومنا وعمقنا الذي يتم تجاهله في إطار الصورة النمطية أو ضمن استشراق العربي على أبناء الجزيرة العربية، لا سيما أن ما يقارب نصف العينة المستهدفة من البحث 45.5% أجمعوا على أنهم يصدقون الصورة التي تقدمها السينما، والتي يظهر فيها الخليجي في نصف الأفلام التي شملتها العينة يتردد على أماكن الرقص والسهر؛ أما بقية وجوده وحضوره، فموزع بين المواقع السياحية والمولات. وهذا لا ينطبق على الجميع، فهناك من يحب أماكن السهر، والبعض المتاحف، وجزء لا يمكنه تجربة رفاهية السفر، والبعض يبحث عن المكتبات والحكايات أو تجارب يخوضها، فليس الجميع الشيخ فواز أو نواف.
هذه الصورة النمطية بالإضافة إلى التأخر في إبراز حضورنا وهويتنا ربَّما يجعل بعض المشاهدين يرغب في إبراز الصورة المكتملة والمثالية عن المجتمع في السينما، وبالتالي في عين الآخر، وهو ما يتناقض مع الإبداع والفن؛ لأن الفن وعاء تعبيري لا تجميلي، مما يشكل ضغطًا خفيًا على صناع الدراما المحليين؛ لأن عبارة «هذا العمل لا يمثل هويتنا ولا عاداتنا وقيمنا» تبدو حاضرة في الأذهان كسلوك تتبناه بعض الجماهير تجاه الأعمال التي تنزع غلالة التحفظ وتجعلنا في مواجهة مع ذواتنا وصراعاتنا. لذا، تقع الشخصية الخليجية بشكل عام، والسعودية تحديدًا، بين مطرقة نظرة الآخر الاستعلائية والسطحية، وبين سندان هروبنا من النقد وتحفظنا تجاه أزماتنا الوجودية وصراعاتنا. وحتى نتجاوز هذه العقبة لابد من إنتاج الكثير من الأفلام التي تتناول مختلف أوجه الحياة وطريقتنا في التعاطي معها، وإبراز الأدوار التي يلعبها كل من الرجل والمرأة في منظومة المجتمع وتأثير التغييرات التي مر بها المجتمع مؤخرًا، خصوصًا فيما يتعلق بتمكين المرأة ومنحها مساحة حقوق أكثر اتساعًا من الماضي على الفرد والأسرة، والتباين بين قناعات الأفراد داخل الأسرة الواحدة.
ومن هذه القاعدة ينطلق المخرج محمد الهليل في فيلم «أربعون عامًا وليلة» ليقدم لنا عائلة سعودية من الطبقة المتوسطة تنقلب حياة أفرادها رأسًا على عقب ليلة العيد بعد اكتشاف الأبناء سرًا أخفاه والدهم عنهم وعن والدتهم، وذلك بعد تعرضه لحادث مروري، فالأب متزوج بالسر على والدتهم. تمضي ساعات الليل ونقترب أكثر من الشخصيات ونكتشف أن كل شخص في هذه العائلة يعيش بمعزل عن الآخر، ثم تكون المفاجأة أن الشاهد الأول على هذا الزواج هو الابن الأكبر.
يزداد التوتر وتظهر على السطح مشاعر اللوم والعتاب والغضب والدفاع والتعاطف والعناد التي كانت كامنة قبل الحادث في دواخلهم تحت ملامح مشغولة بإكمال تجهيزات صباح العيد على أنغام أغنية العيد العراقية، التي وددت بصفة شخصية لو كانت أغنية «من العايدين» لمحمد عبده حاضرة لاكتمال المشهد الذي نقله الهليل بأمانة شديدة، فكل ما في ذلك المشهد يشبهنا! لدرجة أني شممت رائحة البخور والمنظفات ودخان مجفف الشعر.
ثيمة الفيلم مطروقة كثيرًا في الدراما العالمية والعربية وتتخذ أشكالًا متنوعة ما بين أفراد العائلة أو عشاق أو مجموعة أصدقاء. لم يأتِ الفيلم برؤية مختلفة أو جديدة. ويبدو أن العلاقات بين الرجل والمرأة تشكل رافدًا ومعينًا مهمًا لرؤية محمد الإخراجية في تناول هذا الموضوع؛ لأننا نرى في رحلة انكشاف الأسرار اثنين من الأبناء الخمسة يخوضون صراعات مع شركاء حياتهم ما بين شكوك بالخيانة وانفصال عاطفي. ونرى الابن الثالث عالقًا مع خطيبة متطلبة عاطفيًا.
تبدو هذه الحكايات بمثابة فروع تسند الغصن الرئيسي للحكاية وهي علاقة الأب بالأم، لكن هذه الفروع باهتة في طريقة التناول، ولم تملك الفضاء الكافي للتحليق والسرد. وأجزم لو أن الهليل ركز على حكاية وحدها ومنحها ما تستحقه من بناء سردي يليق بها، خصوصًا معضلة الابنة في زواجها، فإننا سنكون أمام فيلم بديع وحقيقي. فالأحداث التي وردت في الفيلم مصيرية والتناول كان عابرًا وهامشيًا، وفي ذلك اختزال مخل للحدث، خصوصًا في السياق الذي وردت فيه.
يشكل الوقت عنصرًا فعّالًا وحيويًا في هذا الفيلم، بدءًا من العنوان الساحر الذي يتكئ على غواية حكايات ألف ليلة وليلة، لكن محمد استبدل الألف ليلة بأربعين عامًا وأبقى على الليلة الأخيرة وهي ليلة العيد. كانت شهرزاد هي الراوي والشخص الذي يمسك في زمام الأمور أمام شهريار في رحلة النجاة. أمَّا الزوجة في الفيلم، فكانت شخصية هلامية ذات حضور هامشي، فهي دومًا خارج الإطار والحدث ولم تروِ لنا شيئًا، فلا وجود لها أثناء تحضيرات الأبناء واستعداداتهم، مجرد بعض المشاهد التي تقوم فيها بتسريح شعرها والحديث بالجوال، وبعد الحادث كانت الشخص الذي يحيط الأب بالرعاية والدعوات.
وربَّما من قبيل المقارنة تبدو العاملة المنزلية تملك سلطة في المنزل وحضورًا في حياة الأب والأبناء أكثر منها. لذا، أعتقد أن الهليل لم يقدم لنا ما يروي فضولنا كمشاهدين عن سبب هذا الزواج، فجاءت التفسيرات من الأبناء الذين كانوا معنا بذات المقعد «مشاهدين»؛ النص لم يسمح للزوجين برواية حكاياتهم.
تبادر إلى ذهني سؤال هل: 40 عامًا من الزواج كافية ليملك الرجل حفيدة في سن المراهقة في مدينة مثل الرياض؟ وحينما حاولت تفسير هذا السؤال اكتشفت أن الهليل نجح في جعلنا نلتمس حضور الزمن وأثره طوال الفيلم الذي تبدأ مشاهده الأولى على ساعة معلقة على الجدار، ويتسرب الوقت وسط الحوار مثل وقت زيارة الأب في المستشفى، ومدة انفصال الأخ عن زوجته، ووقت خروج المراهقة للشارع وغيرها.
لذا، أعتقد حتى لو كان الزمن والمنطق لا يسمح بأن يملك الرجل حفيدة في سن المراهقة، لكن رمزية الرقم وما يمثله في أذهان الناس تغفر هذا التجاوز؛ لأن الهليل يعيدنا مرة أخرى لألف ليلة وليلة ونتذكر الأربعين حراميًا! فكأن هذه السنوات هي اللص الذي سرق حياة الزوجين وربَّما أحلامهم. أمَّا عند قدماء المصريين، فالأربعون يومًا هي مدة بقاء الروح في جسد الميت ثم تفارقه، وكأن الأربعين هي الحد الفاصل بين البقاء والرحيل.
ويعزز ذلك اعتقاد البابليين قديمًا أن الثريا اختفت خلف الشمس 40 يومًا فحدثت الفيضانات والعواصف. النهاية المفتوحة للفيلم لم تجعلني أتيقن أو أنحاز لإحدى الفكرتين: هل الأربعون هي الرحيل والاختفاء، أم هذه السنوات هي صورة عن التطهر الذي يحدث للمرأة بعد إنجابها الطفل؟ فهي بعد 40 يومًا تتطهر من كل ما علق بها في تجربة الولادة.
على الرغم من الملاحظات على الفيلم، فإن الفيلم يشير بوضوح إلى أن الهليل يملك عدسة يمكنها أن تحكي الكثير بمساعدة سيناريست متمكن يجيد رسم الشخصيات الدرامية وبناءها، وأنه سيكون من الأسماء المهمة في خارطة السينما السعودية.