عبدالله الزيد
أجزم أنَّ بعض قراء هذه السطور لم يشاهدوا الكثير من أعمال السينما المصرية، والحقيقة أنني ألتمس لهم العذر؛ لأن أجيالاً ممن هم على قيد الحياة اليوم عرفوا السينما المصرية من خلال سينما المقاولات في التسعينيات، وهي سينما تجعلك تكره الفن، وسيرة الفن، وظلم الفن، وكل حكاياته المليانه هِش وبِش ودموع وآنين!
ولذا يمكنني أن أقول بالفم المليان: إنَّ من لم يتح لهم مشاهدة أعمال للمخرج صلاح أبو سيف في «السقا مات»، أو «القاهرة 30»، أو «بين السماء والأرض»، وسينما عاطف الطيب في «سواق الأتوبيس»، وعبقرية نجيب الريحاني في «غزل البنات»، وكلاسيكيات كثيرة لا يتسع المجال لحصرها، فأرجو منه ألا يتسرع بالحكم على سينما رائدة وثقيلة كالسينما المصرية، وهذا لا يعني أن السينما المصرية الحديثة لا روائع فيها! لأنه لو «خليت خربت» مثل ما يقولون إخواننا المصريون.
هذه الدردشة خطرت في بالي وأنا أشاهد على روتانا سينما فيلمًا من فترة التسعينيات، بعنوان «اضحك الصورة تطلع حلوة» من كتابة العظيم وحيد حامد، وإخراج شريف عرفة. والواقع أنَّه لم يسبق لي مشاهدة هذا العمل الرائع، والعتب – يا عم وحيد – على أفلام مقاولات التسعينيات التي جعلتنا نقف عن أي محاولة للبحث عن أي لمحة فنية جميلة في تلك الفترة المخروبة!
الفيلم كان يحكي قصة شخصية مصور فوتوغرافي بسيط «سيد غريب»، قام بدوره «أحمد زكي»، والذي انتقل مع أمه للعيش في القاهرة وذلك لمساعدة ابنته «منى زكي» لاستكمال دراستها. وينقلنا العمل عبر صراعات إنسانية بسيطة جدًا لا أريد الخوض فيها، فأنا هنا لا أقدم قراءة نقدية للفيلم على كل حال، ولا رغبة لي في حرق أحداثه لمن يرغب في مشاهدته.
القصد إنَّ مصدر إعجابي في هذا العمل البسيط، هو إلماحة رشيقة لوحيد حامد عن وضع بدأ يتفاقم لدينا منذ عصر التلفزيون حتى زمان وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، ألا وهو عصر الصورة، حيث سيطرة الافتراضي على الواقعي، والمصنوع على الحقيقي، وأصبحت الصورة هي الدليل الإرشادي للواقع!
اليوم، وعلى سبيل المثال، نحن نقيم وليمة بدون مناسبة، وربما نخترع لها سببًا سخيفًا، وذلك لنلتقط الصور ونعكس هيمنة الافتراضي على الواقعي في حياتنا، ولا أدل على ذلك من أنَّ التقاط الصور أصبح جزءًا من برتوكولات العزومة حتى صرنا نسمع عبارة:؛ «الي يبي يصور يتفضل» قبل أن يدخل المعازيم إلى مائدة الطعام! بل إنَّ البعض يسافر إلى بلد ما فقط لكي يتمكن من رصد كمية كبيرة من الصورة واستعراضها على وسائل التواصل الاجتماعي. ولذا، أصبح الواقع في خدمة الصورة، وأصبح الناس يكيفون واقعهم بحسب ما يشاهدونه في كوادر صور الآخرين من مشاهير ومشهورات، فالحياة المثالية المعيارية هي ما يوجد في سنابات فلانة، وفي حياة علان.
الاجتماعي الفرنسي جان بودريار من أوائل من نبهوا على خطورة فقدان الواقع أمام طغيان الصورة، وهو مبتكر مصطلح الـ«سيميولاكرا»؛ مفهوم مركزي في فلسفته يؤكد فيه أنَّ الصور ومقاطع الفيديو تلتقط اليوم ليس من أجل تقديم الواقع، بل لصنع واقع موازٍ أصبح بالتدريج هو الحقيقي، وبدأت صورنا تعيد ترتيب الحياة من حولنا. بودريار يقول إنَّ واقعنا لم يعد يشبه الصور وحسب؛ بل أصبح يتشبه بها!
وعودًا على «اضحك الصورة تطلع حلوة»، كان الفيلم تجسيدًا للصراع بين المصور الحقيقي «سيد غريب» الذي عاش حياته يقتات على قيم النبل والشهامة في مجتمع الريف والقرية، مقابل ابنته طالبة الطب التي كانت ضحية للكوادر الزائفة في مجتمع المادة والاستهلاك. لقد كان «غريب» سيد الكاميرا، ويتحكم فيها، ويختار من واقع الحياة البسيطة لحظات فيثبتها أو يمحوها من الزمن كما يريد. بينما كاميراتنا اليوم – وللأسف يا إخوان – هي من تملك الحقيقة، وتعدل الواقع، وتضبط الكوادر في الشارع، وفي المسجد، وفي المدرسة، وفي المقاهي، وفي قاعات الزواج والمطاعم، في كل مكان! نحن نعيش كما تفرض علينا الصور!
عذرًا، يبدو أن نهاية مقالتي درامية ومأساوية أكثر من اللازم! أعمل أيه.. آدي الله وأدي حكمته، كله بسبب وحيد حامد وفيلمه المتعب للتفكير.. ولذا ألتمس منكم كرمًا الضحك عاجلاً ودائمًا.. عشان الصورة تطلع حلوة!