سلطان القثامي
استنتج ليف كوليشوف، خبير المونتاج السوفييتي، في العقد الثاني من القرن العشرين، وضمن فلسفته ومبادئه حول ظهور وتطور السينما، أن التسلسل المنطقي للقطات في عملية المونتاج يخلق معنى يحدده قدرة المتلقي على ربط اللقطات بعضها ببعض في فهم المشهد أو الفيلم عمومًا؛ أُطلِق عليه اسم «تأثير كوليشوف».
يقول كوليشوف إن اللقطات الفردية، عندما نشاهدها بمعزل عن بعضها البعض، تعطي إيحاءات فقط. لذلك يكون مهمة مخرج العمل خلق عدة إيحاءات مترابطة وتكون مهمة المشاهد إعطاء المعنى بناءً على ردة فعله تجاه هذه اللقطات، حسبما يقتضي هذا المبدأ السينمائي. كان كوليشوف متيّمًا بالقدرات المذهلة للتحرير السينمائي، خصوصًا من ناحية تأثيره على مشاعر المشاهدين وبالتالي خلق معنى مختلف في كل لقطة لتحقيق أثر معين ينشده مؤلف النص.
يذكر صانع الأفلام الأميركي ألفريد هيتشكوك أن آلية تركيب اللقطات في المشهد السينمائي تعطي للمشاهد انطباعات مختلفة. أي أن تغيير إحدى اللقطات قد يغير تفسير المعنى تمامًا لدى المشاهد. فهي عملية سينمائية محضة تنبئ بدلالات متعددة للمشهد الواحد. يذكر هيتشكوك، على سبيل المثال، لقطة لرجلٍ صامت التعابير يحدق في اتجاه معين ويتبعها لقطة لامرأة تحمل طفلًا، ثم لقطة لنفس الرجل مبتسمًا. في هذه الحالة يكون الانطباع إيجابيًا، فيعتقد المشاهد أن هذا الرجل لطيف وودود جدًا تجاه الأطفال أو العائلة. ولكن عندما نستبدل اللقطة الوسطى «المرأة والطفل» بلقطة امرأة مستلقية وحدها، فسيكون التفسير مختلفًا، وقد ينشأ انطباع لدى المشاهد عن أنه رجل سيئ الأخلاق. فالانطباع لدى المشاهد يتفاوت بمجرد تنقيح المشهد أو بنائه بلقطات مختلفة.
وكان هيتشكوك نفسه يستخدم هذه المنهجية السينمائية في المونتاج. فاللقطات توحي للمشاهد بالحدث لتخلق لديه شعورًا معينًا وتعينه على الوصول للمعنى. وغالبًا ما يستغل مخرجو الأفلام في تصويرهم للأبعاد النفسية للحدث- أي الأفلام التي تتضمن صراعًا سايكولوجيًا للشخصيات – هذه المنهجية في المونتاج بغرض معالجة الدوافع أو القوى الخفية التي تصنع الحدث وتسيطر بغموضها على المشاهد، حتى يجد نفسه عاجزًا عن تحديد المعنى. وتعتمد منهجية كوليشوف على إيحاءات اللقطات المتتالية التي لا تنحصر في نص معين، بل هي إحدى أساسيات الصناعة وضرورية جدًا في المشاهد التي يعيق إظهارها للمشاهد قيود اجتماعية وأخلاقية. لكن يجب التنبيه هنا أن اللقطة الإيحائية ليس الهدف منها الغموض، بل هي رمزية لفهم العلاقات المعقدة في نقاش موضوع اجتماعي معين.
في فيلم «سايكو» لهيتشكوك، لدينا مشهد الاستحمام المعروف، وفيه تحدث جريمة قتل الفتاة «جانيت لي» في حوض الاستحمام، فيسلط المخرج الكاميرا على حركة سلاح الجريمة «السكين» في اللقطة الأولى، ثم صراخ الضحية، ثم لقطة اختلاط الدم بالماء. ولا يحتاج إلى تركيز التقاطاته على جسد الضحية، فيدرك المتلقي المعنى المحيط بحدوث الجريمة من خلال مشهد الدم، دون حاجة المخرج للكشف عن التفاصيل الدقيقة للجريمة.
فالمشاهد لم يرَ بعينه ملامسة السكين للجسد، لكنه يعلم عن ذلك بلقطات بديلة توحي بحدوث هذا الأمر. في الحقيقة أن الأفلام التي تخاطب الدوافع النفسية في سلوكيات الشخصيات المضطربة نفسيًا، تفترض دقة أكبر في تركيبة المونتاج حتى تصل للمتلقي، فلا يكتمل المعنى دون ردات فعل المتلقي التي تضفي تفسيرها الخاص للعمل.
في سياق أفلامنا المحلية، وفي ظل شحّ النص المتمكن، تعود إحدى مشاكل الإنتاج الحالية إلى القدرات المتفاوتة للمخرجين في ضبط هيكلة المونتاج، باعتباره أداة أساسية للسينما، على منهجية تشابه ظاهرة تأثير كوليشوف السينمائية. لكنها وبالرغم من وضوحها في بعض أجزاء الفيلم، تغيب في المشاهد الرئيسية التي ترتكز عليها حبكة النص. لا تكمن المشكلة في التصوير أو تحرير الفيلم وزوايا الكاميرا وسعة الإلتقاطة، بل في غياب المزيج الأصيل بين أجزاء أو مكونات المشهد التي يمكن تفكيكها وتجميعها لخلق معانٍ جديدة للمشاهدين.