إيمان الخطاف
لم ترد كلمة الحرب ولو لمرة واحدة في التحفة السينمائية الإيطالية «سارق الدراجة» 1948، إلا أنك تستطيع مشاهدة آثار الحرب بوضوح في وجوه المعدمين والمسحوقين الذين صورهم المخرج «فيتوريو دي سيكا» في شوارع روما المكتظة. الفيلم الذي يحكي قصة رجل عاطل عن العمل «أنطونيو»، يتنازع مع أشباهه من الطبقة الكادحة للحصول على فرصة عمل بمبلغ زهيد، ويأتي الشرط الوحيد لقبوله بالعمل أن يمتلك دراجة، فيبتاع هو وزوجته أغراض بيتهم الصغير لشراء الدراجة، وفي اليوم التالي يقوم لص بسرقتها.
ومن هنا تتصاعد التراجيديا في العمل الذي يصوّر حالة البؤس التي عاشتها إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، وما خلفته من فقر وجوع واضمحلال للقيم الأخلاقية؛ حيث يبدأ أنطونيو رحلة البحث عن الدراجة وكأنه يبحث عن إبرة في كومة قش، ولا أحد يمد له يد المساعدة، فالشرطي ينصحه بأن يبحث عن الدراجة بنفسه، والجموع تُشعره باللوم والازدراء، انعكاسًا لما يعيشونه تجاه ذواتهم.
وخلال رحلته يرافقه ابنه الصغير «برونو»، الذي لم يتجاوز عامه السادس، إلا أنه يبدو مختلفًا عن الأطفال الاعتياديين ممن هم في سنه، فهو عامل باليومية، ويحاول أن ينقذ والده أكثر من مرة ويجتهد في مساعدته والبحث عن اللص في شوارع روما، دون كلل أو ملل، في إشارة إلى أن حالة البؤس التي عاشتها البلاد في تلك الحقبة أسهمت في تدمير الطفولة، وأنضجت الأطفال باكرًا.
وتعبيرًا عن الوضع المتدني الذي يعيشه الاثنان «الأب وابنه» يذهبان إلى أحد المطاعم لتناول الطعام، وإفراغ ما بقي لديهم من مال على وجبة واحدة، وحين يحاول برونو أن يتناول الطعام بالشوكة والسكين مثل طفل من الطبقة المتوسطة كان يراقبه في المطعم، يخترق الأب هذا الصراع الطبقي الصامت بالقول «كل كما تحب.. كل شيء ممكن، عدا الموت!».
وكما هو معلوم فإنه في معظم المجتمعات تبدو سرقة دراجة هي حادثة تافهة لا داعي لتضخيمها، لكنها لدى أنطونيو «بطل الفيلم» هي أساس حياته كلها، فبدونها سيموت هو وزوجته وابنه من الجوع. ومن هنا تبدو المفارقة ما بين ما يعتقد الآخرون هينًا، في حين هو لدى البعض الآخر مسألة حياة أو موت، ويفاقم ذلك مشهد الكنيسة في الفيلم، حيث يمارس الناس طقوسهم الدينية بتركيز شديد إلى درجة رفضهم تقديم المساعدة للرجل المتعب مع ابنه، في حالة انعزال تام ما بين طقوس الدين وواقع تطبيقه.
إلى أن تأتي النهاية الصادمة في الفيلم، وكأن دي سيكا يهاجم المنظومة الاجتماعية بالكامل باعتبارها هي من تصنع اللصوص، وتربي شحومهم، وتدفعهم لإكمال طريق الخسة والنذالة. وهذا الانحياز نحو المهمشين جعل «سارق الدراجة» يمثل علامة فارقة في حقبة السينما الواقعية الإيطالية، علاوة على فوزه بجائزة الأوسكار الفخرية، وجائزة البافتا وغيرها.
وهذا الفيلم الذي يشبه الكثير من المجتمعات الفقيرة من حول العالم، تناوله الناقد المغربي الدكتور حمادي كيروم، في محاضرة ألقاها في مؤتمر النقد السينمائي الذي أقيم قبل أيام في الرياض، في إشارة إلى هذه الرائعة السينمائية الفريدة من نوعها. وعلى الرغم من أن كيروم توقف طويلًا أمام مشهد الدرج الذي افتتح به الفيلم، إلا أن كل مشاهد هذا الفيلم كانت عميقة ومؤثرة.
ومع رأي كيروم في أنه جدير بكل النقاد والسينمائيين مشاهدة «سارق الدراجة» باعتباره فيلمًا هامًا في ذاكرة السينما العالمية، فإنه أيضًا فيلم يظهر الوجه الآخر لمدينة البيتزا والموسيقى والأناقة والحياة الفارهة، ليلقي المشاهد نظرة على الذين يعيشون في الجهة الأخرى في ظروف مأساوية، حاليًا أو تاريخيًا، فكما أن للشعوب وجهًا جميلاً، هناك عالم آخر خفي ومؤلم، تكشفه لنا السينما.