أمين صالح
الشريط السينمائي عبارة عن سلسلة من اللقطات المصوّرة على حدة وبشكل مستقل عن بعضها البعض. ومن تركيب هذه الصور المستقلة، بواسطة المونتاج، يتأسس الترابط والاتصال، وتتولّد بينها علاقات جديدة. ولولا وجود وحدة تضمها وتربطها، أي رؤية فنية وفكرية، لبدت العلاقات – الناشئة من تتابع الصور – اعتباطية، وفوضوية، وخالية من المعنى. إن اللقطة المرئية بذاتها هي بلا معنى ما لم تتصل بأخرى عضويًا ودراميًا.
اللقطة ذات أحجام مختلفة «قريبة، متوسطة، عامة… إلخ» وتؤخذ من زوايا متعدّدة. وعبر اللقطات، يحقّق صانع الفيلم الوظيفة التعبيرية، والتأثير الدرامي عاطفيًا ونفسيًا وجماليًا.
اللقطة العامة تُستخدَم أحيانًا للتوكيد على وجهة نظر حرّة، غير متحيّزة، وباردة. إنها تعبّر عن الحاجة للاحتفاظ بمسافة آمنة عن الحدث أو العالم المصوّر. لكنها، في أحيان أخرى، لا علاقة لها بالفتور أو المشاركة، إنما للتوكيد على عزلة الشخصية أو ضياعها، وبالتالي تخلق توترًا حادًا.
حيادية اللقطة العامة تكمن في الدور المزدوج الذي تلعبه. إنها موضوعية، تتيح للمتفرج حرية اختيار أو اكتشاف ما يرغب في رؤيته داخل الكادر – المشهد، بكل ما يحتويه من شخوص وعناصر توجد في مقدمة الكادر أو خلفيته، من دون أن يتورط المتفرج عاطفيًا في الحدث. ومن جهة أخرى، تفضي إلى التحكّم في المتفرج أو التلاعب به، فالمرئي يصبح بعيدًا عن المتفرج الذي يسعى جاهدًا إلى محو المسافة الفاصلة للوصول إلى هناك. أما اللقطة القريبة، فهي ذاتية، غير محايدة، بل مكثّفة، تؤكد وتلح.
إذا كانت اللقطة العامة تمنحنا الإحساس بالانفصال أو الابتعاد عن المرئي، فإن اللقطة القريبة تزيل المسافة وتضعنا في موقع قريب جدًا من الشيء أو من الوجه البشري. اللقطة العامة تؤكد حقيقة المكان وواقعيته، بينما القريبة تلغي المكان، وتمنح الكادر خاصية تجريدية. اللقطة العامة تُظهر المرئي متصلاً بمحيطه أو أقرانه، أما القريبة فتعزل المرئي عن محيطه وواقعه وحيّزه وزمنه. بتركيز البؤرة على الشيء، فإنها توجّه انتباهنا، على نحو استبدادي، نحو الشيء.
اللقطة القريبة اختراق نحو مستوى جديد من الحميمية في اتصال المتفرج بالصورة. وجه الممثل يصبح مجالاً مكشوفًا للارتياد والتحرّي، للسبر والاكتشاف، للاختراق والانتهاك. كل انفعال أو إحساس يبدو مجسّمًا ومفصلاً. كل ارتعاشة أو وميض يصبح مدرَكًا ومحسوسًا. ومن خلال هذه اللقطة يكون بوسعنا، كما يقول جان رينوار، تحسّس الجلد والتمتّع بملمسه.
لكل لقطة، كحجم وزاوية، دلالتها.. وهي تستنبط استجابة ذهنية أو عاطفية أو نفسية من المتفرج. في الواقع ليست اللقطة ذاتها، التي تخلق التأثير الذي يريده المخرج، بل الطريقة التي تُبنى بها اللقطة، إضافة إلى مضمون المشهد.