سلطان القثامي
نتعامل في الفن بشكل عام مع آليتين، تطورتا معًا في سياق تاريخي مشترك، لوصف الواقع الاجتماعي. وتسهم كل آلية في إمدادنا بشكل فريد من التجربة حول الواقع الذي تجسده. فبينما يفضل الفنان التقليدي تأطير شامل لحياة الشخصيات وعلاقاتهم الاجتماعية بطريقة سردية تراجع حدث من الماضي لاسبيل لتغييره، ثم تقوم بإسقاطه على الحاضر والمستقبل، يميل الفنان الحديث غالبًا إلى التصوير الوصفي للانفعالات الجسدية المكثفة عند الشخصية مركزًا على صراعاتها الداخلية. فيحرص كل فنان على حدة على اكتمال التجربة البشرية في نصه، حسب معرفته. والسبب في تباين أساليبهم يعود للتقدم التقني وسيادة الفنون البصرية في المجتمعات المعاصرة.
وهنا سأركز حديثي على الأسلوب الثاني في السينما وبالتحديد في فيلم «عثمان» من إخراج خالد زيدان. يعرّف الناقد الأميركي فردريك جيمسن هذا النموذج من التصوير، الذي اعتدناه في النصوص الروائية الحديثة، بـ«حيّز الانفعال» والذي عادةً ما يهتم بإلتقاط وتوثيق الصراع الوجودي للشخصية ويفسر ظروف وحالات معينة مثل الأحاسيس المكثفة والمشاعر الجسدية غير المستكشفة وغير المعبر عنها في الشكل التقليدي لسرد التجربة.
اعتقد جيمسن أن هذه التجارب والظروف واقعية جدًا عبر التاريخ البشري وتغلّف الكثير من الحقيقة، لكنها لم تكن مسماة، ولم تجد طريقها إلى اللغة، ناهيك عن صعوبة تفسيرها وتمثيلها عبر اللغة لوحدها.
فالتركيز على هذا الأسلوب هو جزء من تلك الحركة العامة التي يقوم عليها تطور الثقافات والمصطلحات المرتبطة بها مباشرة، كما نراها اليوم في السينما. في الفيلم القصير «عثمان» يستند النص في لقطاته القصيرة والمتوسطة على التعابير الجسدية للشخصية الرئيسية «عثمان»، والتي تحمل في تقديري دلالات كُثُر حول مشاعر وآراء الشخصية، والتي تبرز في لغة جسده بشكل أكبر من حواراته مع بقية الشخصيات. فهو شخصية معبّرة، لكن ليس بالكلمات.
فالضحك المبالغ فيه على سبيل المثال ليس عبثيًا في نظري، بل مكثفًا ويحمل تناقضات عدة في مضمونه. فهو لايعكس بالضرورة مشاعر سعادة وانتصار ورضا، بل على العكس، قد نرى فيه انعكاس للغضب وعدم الارتياح والصدمة تجاه دوام الظروف المسببة لتلك المشاعر الحزينة مثل الفقر والظلم، كما يوحي لنا السياق الاجتماعي للفيلم.
ومع التزايد الملحوظ في توجه الكتاب لإبراز هذه اللحظات المكثفة، ظهرت في عدة مجالات بحثية مايسمى ب «نظرية الانفعال»، وهي نهج يركز على القوى أو التأثيرات غير اللغوية التي تسيطر على الشخصيات ولاتتسع اللغة لشرحها للجمهور في كثير من الأحيان.
فتساعدنا نظرية الانفعال على فهم القوى الخفية في العمل الفني من خلال حثنا على الاهتمام بقراءة لغة جسد الممثل، وليس نصه فقط، أثناء استحضاره لتلك المشاعر المكثفة. حيث تكون مهمة الممثل، كما نرى في فيلم «عثمان» ضبط سمات جسده بشكل منهجي – مثل صوته، نظراته، تعبيرات الوجه بشكل عام، وحتى خطواته- لبناء منظومة عاطفية تساعد على فهم النص بعمق.
وهنا يكون أمر اختيار المثل في غاية الأهمية، فقد تشاهد ممثلين مختلفين يؤديان نفس الشخصية لكن لايتركان نفس الأثر والوعي الذي تخرج به من المشهد. حيث أن السلوكيات والأساليب التي يتخذها الممثلون في كيفية التعبير عن نفس الكلمات تُنتِج تأثيرات مختلفة تمامًا في جمهورهم.
في الحقيقة أن الكثير من النصوص المتقنة يمكن تدميرها بسبب الآداء المخيب للشخصيات. وهنا أشيد بمهارة الممثل في تكريس قدراته الجسدية من أجل توصيل المعنى المنشود من المشهد. في أحد المشاهد، ينظر عثمان، وهو حارس أمن في مستشفى حكومي، إلى الموظفين بطرق مختلفة دون حديث مبالغ فيه مع الشخصيات ليترك للمشاهد فرصة قراءة مشاعره تجاه الموظفين.
وكونه موظف ميسور الحال، بدأَ عليه الانسخاط من طبيبٍ غني. و قبل أن يتفوه بكلمه، يمكنك كمشاهد فهم مشاعره من خلال نظراته وأسلوب مشيه وهي لحظة أراد فيها عثمان ممارسة سلطته الشخصية كرمزية لموقفه من الصراع الطبقي و الفجوة القائمة بين فردين من طبقتين مختلفتين.
فهناك نوع من العنف والقوة لايمكن التعبير عنها لفظياً بل بانفعالاتنا ومشاعرنا الكامنة. أناب المخرج عن الكلمات هنا بمخزون الانفعال لدى الشخصية، فليس كل حقيقة يمكن إيصالها بالكلمات. ويمكن تعميق الانفعال هنا بالتوظيف الأمثل لأدواته السينمائية المعروفة من مونتاج ولقطة و إيقاع وزاوية تصوير. فينتقل المخرج بين اللقطات القصيرة والمتوسطة، كما أسلفت، لإضفاء بعد سينمائي ولشد الانتباه لانفعالات الشخصيات في العمل.
ربما أحد الأسباب التي دفعت المخرج للتركيز على انفعالات الشخصية هو قصر مدة الفيلم. فالأفلام القصيرة ذات النص المشبع تضطر لاختزال المعنى في لغتي النص والجسد على حد سواء. لكن هذا لا يمنع من الاستفادة من هذه الميزات الجسدية في سبيل بناء الأعمال السينمائية الطويلة.