سلطان القثامي
يعتقد المفكر الألماني هيربرت ماركوزا أن ممارسة التسامح المطلق دون هدف إنساني نبيل يعيق تطور المجتمعات ويسهم في سلب حريات أفرادها. فالتسامح كسلوك بشري يقع في مسافة متساوية ما بين القمع والتحرير. فعلى سبيل المثال، قد يكرّس التسامح في المجتمعي القمعي لأيديولوجيات وثقافات معينة – سواء كانت مسيطرة أم مترسبة – تجابه الاختلاف والتحول الاجتماعي نحو مرحلة جديدة.
وفي الوقت نفسه، قد يسهم التسامح مع السلوك الجيد في إطفاء العنف وتخفيف القمع، وبالتالي تحرير المجتمع من أفكاره الرجعية. في فيلم «عبد» لمنصور أسد يدرك المخرج أنه لا توجد قوة أو سلطة بإمكانها أن تسيّر هذا التسامح في مسار واحد، أو أن تترجم التسامح القمعي إلى شكلٍ آخر أخف وطأة على الحريات الفردية، لكنه يحاول أن يستذكر مهمته ومسؤوليته الأخلاقية كفنان أو مفكر، وهي استعراض اللحظات التاريخية التي يمكن من خلالها مراجعة واجباتنا كأفراد في تصحيح الأفكار المترسبة والخاطئة في المجتمع مثل اضطهاد المرأة، واحتقار العمل، ونبذ الاختلاف الفكري.
إذ إن اقتناص مثل هذه اللحظات يفتح الأفق لمواجهة هذه المشاكل وتسميتها حتى تكسر الجمود الاجتماعي المتمثل في الخوف من الجديد وعدم التسامح معه. فنلحظ في «عبد» تكرار مقولة «اللي اسمه غريب سلوكياته غريبة» ، وهي جملة تعبّر عن العنف المستمد من التسامح مع التقاليد الاجتماعية القمعية.
وكما يؤكد ماركوزا في نقده لهذا النموذج من التسامح، فإن الصوم عن ممارسته يحجّم من قسوة الأفكار الاجتماعية التي تعيق، بل تدمّر فرص خلق مجتمع خالٍ من الخوف والبؤس. وفي الفيلم تُقدَّم الشخصيتان «مُلَّح» و«سَكِّر» كأمثلة لأفراد مختلفين اجتماعيًا وعرضة لنقد العائلة والمجتمع. فعندما أراد مُلَّح دراسة الطهي بعد الطب عاتبه أبوه خوفًا على ابنه وأسرته من النظرة الدونية للمجتمع.
وفي الجانب الآخر، حاول سَكِّر وزوجته المصورة «لطيفة» تقديم محتوى تمثيلي عبر الإنترنت، لكنهما تعرضا لحملة اجتماعية خلقت مشاكل زوجية بين الطرفين وأدت إلى انفصالهما في نهاية المطاف؛ وهذا في جلّه تعبير عن استبداد الأغلبية في المجتمع ورفض بعض فئات المجتمع لمطامح التغيير. ربما ليس هو رفضًا حقيقيًا، ولكنه تعبير عن حالة التضجر نتيجة صراعنا للخروج من الأيديولوجيات الدينية والشعبية.
فكما يذكر الفيلسوف سلافوي جيجيك أن الأيديولوجية هي علاقتنا العفوية بعالمنا الاجتماعي وطريقتنا لإدراك المعاني. فكما نستمتع بها، فإنه يؤلمنا الابتعاد عنها. فالحرية أو الخروج من هذا العالم تجربة مؤلمة للغاية. فنلاحظ تزايد الجدل حول نجاح الأعمال الدرامية السعودية في معالجة مشاكل المجتمع. وهذا النقاش عادةً ما تستضيفه برامج اليوتيوب الساخرة، ويقدمه أفراد غير مختصين في المجال، لكنهم نالوا استحسان الجمهور والشهرة نظرًا لمحتواهم الساخر، البعيد كليًا عن النقد والتقييم الجاد للأعمال الفنية.
لذلك، يمكن قراءة فيلم «عبد» كردة فعل نقدية ضد التسامح القمعي مع الشكل التقليدي لهذا المجتمع ومحاولة تفكيك أساليبه وكشفها للمجتمع دون رفض الآخر، أو نبذ الاختلافات الفكرية بين أفراد المجتمع وأجناسهم المختلفة؛ بل هو دعوة للتسامح المثمر الذي يتماشى مع التنوع والانفتاح الاجتماعي الحديث. وهنا يجب القول إنه لا ينبغي للكاتب تمثيل هذه البرامج الساخرة كعقبة تجاه حركة الإنتاج والعمل السينمائي الجاد كما استعرض الفيلم في تصويره لمصير شخصية سَكِّر الذي اختار الانتحار بعد فشل محاولاته في إرضاء المجتمع. فهذه الاعتراضات الفردية أو الاحتجاجات ضد ما يخالف أعراف المجتمع، هي غالبًا ما تتشكل تجاه الفن؛ لأنه اعتدنا أن يقف الفن ضد التاريخ القمعي للمجتمع، ولأن الفن يُخضِع الواقع لقوانينه الخاصة وليس لتقاليد المجتمع الراسخة.