خالد ربيع السيد
يقف المخرج «مارتن سكورسيزي» وكاتب السيناريو «إيريك روث» في فيلمهما «قتلة زهرة القمر – Killers of the Flower Moon»، الذي حضرت عرضه الأول في الرياض مساء أمس في قاعة ممتلئة تمامًا بسينما فوكس؛ يقفان بمحبة نحو شعب الأوساج الهندي الأحمرOsage Nation، الذي عاش في أوكلاهوما وأسس موطنه. وفي الوقت ذاته يوجهان «المخرج والسيناريست» إدانة ضمنية سافرة للأميركان البيض اليهود وغيرهم الذين أمعنوا في القتل والتصفيات الجسدية لأبناء قبيلة أوساج وسيوكس وشيروكي وأباتشي وغيرهم، طمعًا في ثروتهم التي تزايدت في عشرينيات القرن الماضي.
تركيب جاذب ومتعة بصرية ومكياج متقن
مشاهدة الفيلم المقتبس عن رواية ناقلة لأحداث واقعية للكاتب الأميركي «ديفيد غران»، تغلفه متعة كبيرة في متابعة أحداثه، ولا سيما أسلوب سكورسيزي بطريقة سرده الجاذبة؛ بانتقالاته وتداخلات لقطاته ومشاهده التي برعت في تركيبها المونتيرة «ثيلما سكونميكر»، المخضرمة العتيدة «في الثمانينيات من عمرها هي وسكورسيزي» والحاصلة على 6 جوائز أوسكار عن أفلام سابقة لسكورسيزي وهي: الثور الهائج، والطيار، والمغادرون، وأصدقاء طيبون، وعصابات نيويورك. هذا يجعلنا ندرك من وراء تجويد أفلام سكورسيزي؛ إذ تقوم «ثيلما سكونميكر” بمقصها ومبضعها الحساس لتتولى التركيب والتقطيع والمونتاج الحذق في أقصى حالاته الاحترافية.
إضافة إلى التوليفات الجمالية، مثل مشهد حرق بيوت الهنود التي ظهرت كلوحة تشكيلية فنية رائعة تبدو كظلال بتصوير سولويت، والمشهد الختامي للهنود الحمر وهم يقرعون طبلًا كبيرًا في تشكيل بصري فاتن، بالإضافة إلى لمحات من تراث الأوساج؛ إذ يبدأ الفيلم وينتهي بطقوسهم وقد اقتبست مقدمته من رواية «مزمار لفبراير A Pipe for February» للكاتب تشارلز إتش ريد كورن من شعب أوساج، حتى إن العمل يبدو وكأنه احتفاء بتراث وثقافة وفنون هذا الشعب.
على هذا النحو، فإن المشاهد يكون في حالة غمر مستمر طوال دقائق الفيلم الـ207 «3 ساعات و27 دقيقة»، مع موسيقى تصويرية ومؤثرات صوتية لـ«روبي روبرتسون»، التي خلقت أجواء مستمدة من عالم أفلام الوسترن بتطعيمات نغمات الهنود الحمر بالصوت البشري والآلي وقرع الطبول مع أهازيجهم الدينية ومناجاتهم للآلهة.
«مؤلف موسيقى الفيلم وعازف الجيتار روبي روبرتسون، مؤسس فرقة الروك الأميركية الكندية «ذا باند»، توفي في 10 أغسطس 2023 عن عمر 80 عامًا، وكان عمل مع سكورسيزي في فيلم الإيرلندي The Irishman وفيلم لون المال The Color of Money».
بهذه التوليفة الفنية يتصاعد السرد ويحلق ويهبط ويتأرجح في نسيج بصري ثري تعززه تفاصيل مدينة أوكلاهوما، بشوارعها وحاناتها وسياراتها من موديلات العشرينيات، وأيضًا التضاريس المحيطة بأراضيها الشاسعة التي امتلأت بأبراج حفر آبار النفط، ومع كل ذلك الديكورات المدروسة للسينوجرافر «دانتي فيريتي» ومعمار البيوت من الداخل والخارج، وروعة الأزياء في فترة العشرينيات بأناقتها وتباينها مع الملابس الهندية والأوروبية «الاستايلست إليسا أكيفودو»، ثم من دون شك بأداء ممثليه «ليوناردو دي كابريو» و«روبرت دي نيرو»، و«ليلي جلادستون» و«جيسي بليمونز» بطل فيلم «أفكر في إنهاء الأشياء – I’m Thinking of Ending Things».
ممثلون محترفون
هؤلاء الممثلون المحترفون بدوا وكأنهم يتبارون في مباراة تضع أقصى حالات الأداء المشحون بالجدية والتقمص في تشخيص أدوارهم، لإبراز قدراتهم الفنية كهدف أساسي.
بدا أداء «دي كابريو» في قمته، إذ جسَّد الحيرة بين قلبه العاشق وبين جشع وقسوة إرادته واضطرابات خلجاته ودواخله في أداء بليغ ومستبطن للدور بتعايش مثالي. لكنه – كما يبدو لي – أداء متأثر بأسلوب روبيرت دينيرو في تعابير الوجه وإطباقه الشفتين ولغة الجسد وهمس الصوت لبالتون «الدينيروي» والنظرات الزائغة والثابتة في آنٍ.. ثم روعة حواراته مع دينيرو، التي أبدعا فيها لدرجة الكمال.
هنا علينا أن ننتبه أيضًا لبراعة المكياج وحرفية الماكييرة «تريسي أندرسون» التي ساهمت دراميًا في توليف ملامح أبطال الفيلم بحسب الحالة الدرامية والزمنية والفنية، خصوصًا في مكياج «دي كابريو» والممثلة «ليلي» والمعلم «دي نيرو»؛ هو مكياج مشغول بتفهم وعمق لكل مرحلة عمرية ولحظية تدور في الأحداث وتؤثر في أشكال الممثلين. الممثلة «ليلي» كيف بدت جميلة ومشرقة في لحظات الصفاء والحب، ثم كيف ذبلت بعدما سيطر عليها الحزن، والمرض والشحوب والذبول. تغُير ملامح وتجاعيد «دي كابريو» بأسنانه المصفرة و«دينيرو» بتهدلات بشرته وتجاعيد وجهه.
زهرة القمر
أحداث الفيلم وقعت في أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20، حين اُكتشفت كميات هائلة من احتياطي النفط في أراضي السكان الأصليين «الأوساج» بولاية أوكلاهوما، فأصبحوا أثرياء، وركبوا سيارات فاخرة يقودها لهم سائقون من البيض، وبنوا بيوتًا فارهة، وأرسلوا أطفالهم للدراسة في أوروبا، ثم صنعوا ملابسهم التقليدية من أفخر أنواع الأقمشة بالتصميمات الهندية المستمدة من تراثهم وتناولوا أطايب الطعام.. ثم ماذا كان المصير؟
احتوت أراضي أوساج على مليون ونصف مليون فدان من الأراضي الخصبة: تلال خضراء ووديان غناء وحقول وبحيرات، وزهرة القمر الجميلة تنمو بدلال في كل الأنحاء. زهرة القمر التي تشبه في نموها وحياتها وصفاتها الإنسان في هذه الأراضي الزاهية بجمالها. نبتة برية حرة يقتلها المطر والسقيا الزائدة، أوراقها خضراء لامعة، وأزهارها بيضاء خلابة. ولا تُصاب بأمراض خطيرة تقريبًا؛ هي حرة، متطلعة للحياة بمواصفاتها الخاصة، منسجمة مع بيئتها.. هل أخذت من صفات الهنود حولها، أم أنهم هم الذين أخذوا من صفاتها؟
قصة رومانسية غير عادلة
آرنست بوركهارت «ليوناردو دي كابريو»، جندي قاتل في الحرب العالمية، جاء طامعًا في ثروات الهنود، قاصدًا خاله «وليام هيل» «اليهودي» أو الملك كما يسميه الأهالي من قبيلة الأوساج المستضعفين، وهو الساعي للاستيلاء على النفط في أراضيهم «يؤدي شخصيته روبرت دي نيرو». وهو مربي ماشية ثري يعيش مع عائلته الصغيرة في منزل كبير كئيب محاط بالبراري.
يرحب هيل، ملك أوساج، بآرنست في الحظيرة، ويسأله عما إذا كان قد أحضر شيئًا من الحرب، فيجيبه آرنست: لا، وإذا كان يحب النساء، فيجيبه: نعم.
صمت هيل برهة، ثم يلقي توضيحًا عن عوائل أوساج التي أصبحت في العقود الأخيرة أثرياء للغاية بسبب النفط.. يقول هيل: «إنهم أرقى وأغنى وأجمل الناس على الأرض».
على أية حال سرعان ما عشق آرنست امرأة رقيقة من الأوساج تُدعى «مولّي بوركهارت» تؤدي دورها «ليلي جلادستون».
معادلة هذا الحب غريبة وشروطها متأرجحة بين العاطفة الإنسانية السامية والجشع المتوحش الذي لا يتوانى صاحبه في فعل أي شيء لتحقيق مطامعه. كيف أحب آرنست «مولي» إلى هذه الدرجة من العشق، وفي نفس الوقت لم يتراجع لحظة – في الخفاء – عن قتل أختيها ووالدتها؟ كيف غمر قلبها بالمشاعر الحميمة وروحها بالأحزان الدفينة؟ ثم كيف أمعن في قتلها ببطء بسم يحقنه لها بشكل يومي مع عقار مرض السكري؟
ومع ذلك، يمكن القول إن أكثر المشاهد إثارة للحماس هي تلك التي تركز على قصة الحب بين مولي وآرنست، في كل لحظاتها الرائعة وكل الصعوبات التي واجهتها. إنها علاقة متعددة الأوجه ذات جاذبية عاطفية متوهجة.
بالطبع يقدم «دي كابريو»، الذي امتلأ فمه بأسنان متسوسة، رجلًا محبًا وضعيفًا وقبيحًا في باطنه، رجلًا يتشنج خده عندما يكذب ويتدهور جسده تحت تأثير الشعور بالذنب أسرع من أي سم. في مقابل جلادستون التي تمثل مركز ثقل الفيلم، وقدمت واحدًا من أكثر الأداءات الاستثنائية الأنثوية في أي من أفلام سكورسيزي.
«مولي» زهرة الفيلم
عندما بدأت جرائم القتل تتزايد حتى وصلت إلى أكثر من أربع وعشرين جريمة في أوكلاهوما، وتزايدت في ولايات أخرى، أصبحت عائلة السيدة مولي بوركهارت، هدفًا رئيسيًا للقتلة أعوان آرنست اليهود. فقد تم إطلاق النار على أقاربها وتسممهم. أخذ المزيد والمزيد من أفراد القبيلة يموتون في ظروف غامضة.
القلق أخذ يسيطر عليها إزاء هذه الوفيَات غير المبررة، فصممت على وضع حد لها. تقوم مع سيدة أخرى من أوساج بإرسال ممثل إلى واشنطن العاصمة للحصول على مساعدة حكومية رسمية. إنها تستأجر محققًا خاصًا. وعندما يختفي هذان الشخصان في ظروف غامضة، تذهب إلى واشنطن بنفسها – على الرغم من مرضها المنهك.
تحقيقات صعبة.. فيلم لا ينسى
كانت التحقيقات التي قام بها مكتب التحقيقات الفيدرالي في جرائم القتل الوحشية هذه، أحد أكثر التحقيقات تعقيدًا وصعوبة. قبل بدء التحقيق في مكتب التحقيقات الفيدرالي. وتتكشف الحقائق المدهشة.
إنه أحد أكثر أفلام سكورسيزي وحشية، ومع ذلك فهو أحد أكثر أفلامه عمقًا وتأملًا للذات، حيث يقدم لنا «لغز» جرائم قتل سافرة لا تترك أية أسئلة عالقة باستثناء سؤال واحد. إنه سؤال يحدد تيار التاريخ الأميركي: إلى أي مدى قد يذهب الإنسان في طريق الجشع والسيطرة؟