نورة البدوي
يبدأ الفيلم الوثائقي بلقطة فوقية لغابة بوبوري حيث نشاهد تفرع أغصان الأشجار في خضرة ممتدة امتداد النداء إلى روح الحياة بإفريقيا، مع حضور للأغاني وما أضافته من إحساس عالٍ بجغرافية المكان وشاعريته.
بهذه الحركة الفوقية يؤثث مخرجنا التونسي عبدالله الشامخ، انتقالاً مشهديًا بين عالمين، الغابة من جهة «الفوق» إلى أن نصل إلى الأسفل حيث المنازل والحي. تسمح لنا الكاميرا بالاقتراب من صوت الراوي «السارد» Pierre latte الذي كان بمثابة السارد والكاشف في آن بين ما كانت عليه الغابة وما أصبحت عليه بفعل هيمنة العولمة.
فيقول: «كانت الغابة تحيط بنا من كل جانب حتى الحيوانات كانت تأتي إلى القرية تشاركنا طعامنا، فكل ما هو غابة حل محلها الحي والمنازل».
ترافق هذا القول حركة الكاميرا في لقطات مقربة للشخوص امرأة تطهو، رجل يطلي جسده بالطين، أصوات المواشي.. وهذا ما قد يدعم قراءة الفيلم باعتباره مقاربة سردية بين ما تحمله هوية المكان وعلاقته بالغابة المقدسة التي تحمل عنوان الفيلم.
تدغم كل هذه الثيمات عبر انتقال مشهدي فيما بينها لتمهد منذ البداية لعنوان الفيلم: «الغابة المقدسة».
أول ما يلفت انتباهنا في الفيلم هو عنوانه الذي لا يخلو من إيحاء ودلالة ورمزية مرتبطة بجغرافية المكان ورمزيته. بهذه المباشرة يختار الشامخ عنوان فيلمه الوثائقي دون الابتعاد عن القارة الإفريقية في بعدها الحضاري والتاريخي والفكري.
في هذا الإطار يقول مخرجنا: «ذهبت إلى أدغال ساحل العاج، وتحديدًا قرية «بوبوري» حيث يعيش عرش «الأديكرو»، هذا العرق هو شعب أصلي من أقدم قرى «أديوكروس».. حاولت أن أعيش حياة الإنسان داخل الأدغال خارج فكرة المدينة».
بهذه الرحلة يغوص بنا مخرجنا في أعماق قرية «بوبوري»، ويكشف لنا طريقة عيشهم وأسلوب حياتهم وتفكيرهم وكأنه يسعى لإزالة اللثام عن وجه إفريقيا الذي غطّته العولمة بحجابها الكثيف. فهذا الفيلم أشبه بالحفر الأركيولوجي في ذاكرة ثريّة لها القدرة على الاستمرار وتأكيد جدارتها. تستمر الكاميرا في نقل الحياة البسيطة لشعب «أديكرو»، ففي النهار نجد في حركة الأشجار عبر المزارع وأصوات الحيوانات المواشي، حيوية السكان من حضور المرأة وما تقوم به من أدوار متعددة وكأنه يحيلنا إلى أجواء أغنية «ماما أفريكا» لميريام ماكيبا، التي نحتت وحفرت في أذهاننا نضالات المرأة الإفريقية. أما في الليل، فتكون السكينة وضوء القمر. كل تلك المشاهد تتفاعل في حياة طبيعية تعزز انتماءها لجغرافيا المكان إفريقيا. في هذه الحياة المعيشية التقى جسر بين الأجيال فتأسس ما يسمى بثقافة «اللوو، حيث استقر شعب «أديكرو» هنا في موقعهم هذا يعيش الناس من الزراعة وتربية الماشية، عندها بدأت تتأسس ثقافة «اللوو» التي تعني الاحتفال التقليدي، مثل هذا الاحتفال يعني هويتنا»، بحسب تعبير الشخصية الساردة في الفيلم .PIERRE Latte
بين صياغة مفهوم للثقافة والانتماء لأفراد قرية أديكرو يطرح الشامخ من خلال ما تنقله الكاميرا من لقطات ومشاهد وحوارات مقتضبة بين شخصيات فيلمه الوثائقي، ما يحث المشاهد على طرح عدة أسئلة تخص إفريقيا؛ هذه القارة المكتنزة بفلسفة العيش وما تواجهه من هيمنة واستعمار من قبل العولمة.
إنها فلسفة طبيعية وقديمة تجعل شعب أديكرو يسعى إلى حماية موروثه الثقافي من عادات وتقاليد من خلال طقس يسمى باحتفال الأجيال حيث يتواصل «…» الآباء الذين بلغ أولادهم أعمارًا بين 20 و23 سنة للمشاركة في الاحتفال، وهو مخصص لاختبار تعاملهم مع الغابة المقدسة، ويكون بالامتنان لها وللأسلاف عبر طقوس متوارثة يحافظون عليها ويتوارثونها، وهذا ما يمنحهم صفة المواطنة «إنها طريقتنا في الحياة»، بحسب تعبير بيار لات.
مع الاحتفال ونقل طقوسه بلقطات عامة وأخرى مقربة تدور الأحداث ويبوح المكان بنفسه، وفي تدفق تصاعدي بموازاة غناء النسوة وطبخهن ورقصهن، محتفلات برقصة «الداسوكو» التقليدية على إيقاع «التام تام» لتختزل الكاميرا لغة الجسد النابضة فرحًا والمعبرة ثقافة وهوية.
في هذا الإطار يقول الشامخ: «أعتقد أنني أتقاسم مع الإنسان في عمقه الوجودي والكوني عديد القيم، وأن الكاميرا لا تؤمن بالجغرافيا ولا بالحدود، بل تتعامل مع الفضاء في أبعاده الذاتية والكونية، وأحاول أن أعبر عن مواقفي الجمالية والفكرية من خلال الكاميرا كوسيلة للكتابة البصرية».
كتابة لم تخلُ من إيحاءات الدلالات البصرية وإحالاتها التاريخية والثقافية والانتمائية لشعب أصبح يعيش صراعًا بين الأجيال، فالجيل الجديد «أصبح يعتبر تقاليدنا بالية، حيث بدأت فجأة الثقافة الأوروبية تهيمن بطريقة جنونية على ثقافتنا»، بحسب تعبير الراوي.
يعمد مخرجنا من خلال الفيلم إلى التركيز على صوت الراوي وكأنه نبض أعماق القرية وشاهد على فتراتها وتغيراتها، إلى جانب حضور الكاميرا الداعم والمرافق للسرد بلقطاتها ومشاهدها وحركاتها؛ ما أضفى معطى جماليًا معرفيًا لمن يقترح مقاربات وأسئلة أخرى تتعلق بالقارة الأم إفريقيا.
«نعيش في نفس القرية فقراء وأغنياء
بلا تمييز نعيش
نعيش في القرية معًا».