عبدالله الزيد
منذ أيام وصور المآسي تهطل على شاشات التلفزيون بأبشع ما تجود به جرائم الحرب ضد المدنيين العزل؛ مما يُغْني عن مزيد من الكلمات والجُمل الشعرية الرنانة والجالبة للتصفيق والتهليل! لقد كانت تقاسيم وجوه الأطفال المفجوعة حالة سينمائية تراجيدية مؤلمة، يشاهدها المرء منا بيأس وعجز؛ ويتمنى أنها جزء من مشاهد «فضاء الأوديسة» المحبطة ربما؛ ولكن العابرة والخيالية!
لقد كتب «جيل دولوز» في الصورة والحركة عما يمكن للسينما أن تعطينا من دواء تطهيري للواقع عبر ميزة الزمن غير الحقيقي «الميتافيزيقي» من خلال الأحلام والخيالات والقفز بنا فوق أرجوحة الزمن البغيض الذي نعيشه بين فترة وأخرى. ومن هنا أتساءل: ما الذي يمكن أن تقدمه لنا السينما في مثل هذا الوقت العصيب من واقعنا البشري القاتم؟ هل تطهيرية أرسطو أو خيالات دولوز حقًا كافية؟ ما الذي يمكن للفن بشكل عام، والسينمائي على وجه التحديد، أن يفعلاه أو أن «ينجزاه»؟.. فالإنجاز أبلغ من مجرد الفعل! نعم البُلْغةُ – وليس البلاغة – أصبحت اليوم شيئًا ملحًا ومطلوبًا.
وقد تكون – أيها القارئ الكريم – معذورًا في أن يصيبك الملل والكآبة من كتابات ومشاهد إخبارية أصبحت اليوم أشبه بابتزاز عاطفي تضخه لك وسائل الإعلام مع كل أزمة تصيب الضمير الإنساني، ونجيد نحن الكتَّاب – مع الأسف الشديد – استثمارها بكفاءة منقطعة النظير عبر المقالات والعناوين الرنانة كهذه المقالة! وعادة ما تحمل ردود أفعالنا الملطخة «بالحبر» القابل للنسيان الكثير من المقترحات المُبالغ فيها والعاطفية، وعلى سبيل المثال يمكنني أن أكتب الآن بألم ممزوج بالدموع: متى نصحو من غفلتنا أيها السينمائيون ونقدم سينما تنتصر لقضايانا الوطنية والقومية الجادة؟
أعلم أن مثل هذه المطالب غير منطقية، وكأنني أطلب على سبيل العبث والمستحيل من «البطاطة» أن تصحو من غفلتها وتُحيي ضمير الغفلة في وجدانها وتتحول بين يوم وليلة إلى «تفاحة»! بالتأكيد هذه مطالب متعالية على الواقع. وذلك لأن السينما بكل أشكالها مطلوبة، والترفيه جزء من مهمة هذا الفن بشقيه التجاري وغير التجاري. ولكن ربما يمكننا أن نطمع بالقليل ونطلب – فقط – أن تتوقف السينما عن فعل الإلهاء. نريد سينما لا تلهي حتى وهي تُرفِّه، والفرق بين اللهو والترفيه كبير وكبير جدًا. اللهو هو ما يسعى بكل ما أوتي من قوة أن يعمي ضمير الحق فيك عبر مقولات من مثل: ليس مطلوبًا من السينما فعل كذا وكذا.. أو مقولة إن السينما ليست محاضرة أو خطبة. نعم، وبالتأكيد السينما ليست محاضرة أو خطبة مثلما أنها ليست نكتة «تيكتوكية» عابرة، أو مشهدًا «يوتيوبيًا» سامجًا!
إن السينما مقولة مقاومة، ومساحة تهميش ضد متون الجمود والتخلف! السينما كلمة حق في وجه الظلم حتى لو كانت تلك الكلمة «إيفيهًا» مضحكًا من إفيهات شابلين في الديكتاتور العظيم، أو تعليقًا ساخرًا من إسماعيل ياسين في مفتش نقولا غوغول! وحتى لو كانت كلمة الحق منعكسة في حكاية حب متسامية بين عمر الشريف وفاتن حمامة تجاوزت كل جبروت الاحتلال والاجتياح في رائعة «أرض السلام».. ما أريد أن أقوله يا أصدقائي هو أنَّ السينما – كما يكرر ذلك دولوز كثيرًا – مقولة مقاومة، وهي أيضًا ضحكات المهمشين، وهي دموع المكلومين الحالمين، هي كل هذا حتى في أشد حالاتها ترفيهًا وتسلية، فهل هذا مستحيل؟