د. أشرف راجح
حصل فيلم المخرج العالمي «مارتن سكورسيزي» الجديد «قتلة زهرة القمر – Killers of the Flower Moon»، على تقييم مرتفع جدًا وصل إلى 97% من قبل 73 ناقدًا عالميًا على موقع التقييمات Rotten Tomatoes، وذلك قبل طرحه يوم 20 أكتوبر الجاري بدور العرض حول العالم. وفي كتابه الجديد «مارتن سكورسيزي سينما البطل المأزوم»، الصادر في العام الماضي ضمن مطبوعات «مهرجان أفلام السعودية»، يبحث الناقد السينمائي المصري «أمير العمري»، في التجربة السينمائية للمخرج الأميركي ذي الأصول الإيطالية، التي تضمنت 25 فيلمًا طويلًا، وعددًا من الأعمال التسجيلية.
ويذكر العمري أن سكورسيزي ليس مجرد مخرج سينمائي يصنع الأفلام، بل مثقف من طراز رفيع، يعرف جيدًا تاريخ السينما، ويهتم اهتمامًا خاصًا منذ وقت مبكر بإنقاذ وترميم واستعادة الأفلام القديمة، وله دور مشهود في هذا المجال على مستوى العالم، من خلال المؤسسة التي تحمل اسمه. وقد صنع واحدًا من أهم الأفلام التي تروي تاريخ الفيلم الأميركي هو فيلم «قرن من السينما» الذي يروي فيه كيف أصبح مولعًا بالسينما، وعشق الأفلام الأميركية من حقبتي الأربعينيات والخمسينيات. ويعد سكورسيزي أحد أكبر السينمائيين الأميركيين اهتمامًا بالسينما الأوروبية الحديثة وبالحركات السينمائية التي غيرت وجه السينما في العالم مثل الواقعية الإيطالية الجديدة والموجة الجديدة الفرنسية.
والمخرج الكبير مارتن سكورسيزي هو واحد من أساطير السينما في العصر الحديث، نالت أفلامه الكبرى النجاح الجماهيري والاهتمام النقدي معًا، مثلما هو الحال مع «سائق التاكسي – Taxi Driver» لعام 1976، و«الثور الهائج – Raging Bull» لعام 1980، و«الإغواء الأخير للسيد المسيح – The Last Temptation of Christ» لعام 1988، و«رفاق طيبون Good fellas» لعام 1990، و«عصر البراءة – The Age of Innocence» لعام 1993، و«كازينو – Casino» لعام 1995، وصولاً إلى أفلامه الضخمة في الألفية الجديدة: «عصابات نيويورك Gangs of New York» لعام 2002، و«الطيار The Aviator» لعام 2004، و«المغادرون The Departed» لعام 2006، و«جزيرة شاتر Island Shutter» لعام 2010، و«هوجو Hugo» لعام 2011، و«ذئب وول ستريت The Wolf of Wall Street» لعام «2013»، وأخيرًا «الإيرلندي The Irishman» عام 2019. وبقي عشاق الفن السابع في انتظار تحفته الجديدة «قتلة زهرة القمر Killers of the Flower Moon» التي تأخر تقديمها من 2021 بسبب ظروف وباء كورونا، إلى أن تم عرضه لأول مرة في مهرجان كان السينمائي الدولي هذا العام، حيث انضم إلى سكورسيزي في العرض الأول للفيلم أبطاله المفضلون وأصدقاؤه في العمل والحياة الثنائي روبرت دي نيرو وليوناردو دي كابريو، اللذين استقبلا داخل مسرح «جراند لوميير» بعاصفة من الهتافات والتصفيق عقب عرض الفيلم الذي وصلت مدته إلى 3 ساعات و26 دقيقة.
يجمع الفيلم النجوم ليوناردو دي كابريو وروبرت دي نيرو وليلي جلادستون، إلى جانب النجم براندون فريزر. ويحكى الفيلم قصة ذات أساس واقعي عن الجشع المستفحل والقتل المستباح، استنادًا إلى كتاب ديفيد جران الأكثر مبيعًا. وتدور أحداث فيلم Killers of the Flower Moon في أوكلاهوما في عشرينيات القرن العشرين، ويصور أكثر من جريمة قتل لأعضاء من قبيلة «أوسيدج» في منطقة غنية بالنفط، وهي سلسلة من الجرائم الوحشية التي أصبحت تُعرف باسم عهد الإرهاب. ويجسد فيه ليوناردو دي كابريو وليلي جلادستون دور محققين في جريمة قتل تضمنت مقتل أفراد من قبيلة أوسيدج في أوكلاهوما.
عالم مارتن سكورسيزي الفيلمي هو عالم الإغواء والمطامع التي تدفع الشخصيات إلى التخلي عن إنسانيتها، والدخول في الاختبار «الدرامي» الذي يصهرها، ويبرز معدنها الحقيقي الذي تكتشفه الشخصية، وأيضًا ندركه – نحن كمشاهدين – معها. ولعل أحد النماذج الفيلمية المميزة لديه الذي لم يلقَ الضوء كثيرًا عليه، هو فيلم «لون المال The Color Of Money» لعام 1986، الذي يعيد فيه الحياة إلى شخصية «إيدي فيلسون» (بول نيومان) لاعب البلياردو المقامر التي قدمها نيومان سابقًا في فيلم «المخادع The Hustler (1961) المأخوذ عن رواية للمؤلف والتر تيفيس Walter Tevis، والذي قدم مؤخرًا من رواياته المسلسل الناجح «مناورة الملكة The Queen’s Gambit عام 2020، و«المخادع» سيناريو الكاتب سيدني كارول مع المخرج روبرت روسن Robert Rossen.
يدور فيلم المخادع حول «إيدي فيلسون» (بول نيومان) لاعب البلياردو الماهر الذي يسافر للعب إحدى المباريات مع أحد اللاعبين الماهرين وهو «بدين مينيسوتا». المباراة تتضمن مقامرة على مبلغ كبير من المال، وحينما يخسر «إيدي» كل شيء ويضل طريقه ويدمن الكحول، يقابل «بيرت» المدرب القاسي الذي لا يعرف الرحمة، فيستجيب له، ويبدأ في التدريب مرة أخرى لاستعادة ما فاته. يقدم النجم بول نيومان Paul Newman شخصية لاعب البلياردو الموهوب المقامر المغرور والمخادع في هذا الفيلم الرائع The Hustler، وهو فيلم لا يروي قصة الفوز في اللعبة بل يروي قصة تقبل الهزيمة في اللعبة وفي الحياة، وطبيعة الافتقار إلى تماسك الشخصية، وكيفية التحكم بالنفس وضبطها، فهو واحد من الأفلام القليلة التي تجعل بطل الفيلم ينتصر في النهاية من خلال الاستسلام وقبول الأمر الواقع من أجل تجاوزه، بدلاً من الجري وراء الأحلام المستحيلة. وقصة الفيلم تتمحور حقًا حول لعبة البلياردو، لكن عمق القصة وانعكاساتها يجعلنا من الممكن أن نستبدلها بأي لعبة أخرى، أو أي عمل أو نشاط يعتمد على إدارة الحياة عن طريق الخداع والثقة بالنفس. ولعل تلك الأبعاد هي التي أغوت سكورسيزي بأن يقدم هذا العمل «لون المال» الذي اعتبره في البداية فيلمًا تجاريًا يشغله أثناء تحضيراته لمشروعه الحلم لتقديم فيلم «الإغواء الأخير للمسيح» الذي احتاج إلى تمويل كبير، حتى استطاع أن ينجزه بعدها بعامين.
إن البطل الذي يطارده ماضيه وينساه المجتمع ويصبح كمًا مهملاً هو أحد النماذج الأصلية الكلاسيكية المطروحة بقوة في سينما سكورسيزي. يميل هذا النوع من الشخصيات إلى إنشاء قانون أخلاقي خاص به لتحقيق العدالة بيديه. وكل أفعال هذه الشخصيات هي تمثيل للتعقيدات المتشابكة والطبقات العديدة التي تضمها نفس الإنسان عند السير على الخط الرفيع الذي يفصل بين الخير والشر. وفي فيلم «لون المال The Color Of Money» لعام 1986 عن رواية والتر تيفيس Walter Tevis وسيناريو الكاتب الكبير ريتشارد برايس، يظهر مرة أخرى «إيدي فيلسون» لاعب البلياردو الشهير، ويتصادف أن يقابل لاعب البلياردو الصاعد الواعد «فينسنت» (توم كروز) في إحدى البارات المحلية، ويرى فيه نسخة منه في شبابه. وفي محاولة منه لاستعادة أمجاد الشباب يعرض على فينسنت أن يتولى رعايته كي يصبح لاعبًا محترفًا. بعد فترة من التردد يوافق فينسنت على العرض، فيصحبه إيدي هو وصديقته «كارمن» في عدة أماكن حول البلاد ليعلمه، لكن بسبب رغبة فينسنت الدائمة في الاستعراض يتسبب في خسارتهما للكثير من الأموال، مما يؤدي إلى انفصالهما. ولكن تتطور الأمور إلى درجة كبيرة من التحدي، حتى يعود البطل السابق إلى الملاعب المخملية مرة أخرى، وتتفجر الأحداث من جديد في إحدى البطولات الكبرى بالمواجهة النهائية بينهما.
يأخذنا فيلم «لون المال» مرة أخرى إلى عالم البلياردو حيث «صنع الحظ هو فن» كما يقول العجوز المتصابي «إيدي» وهو يبيع الخمر المغشوش لصاحبة البار صديقته «جانيل». يلتقط اللاعب الماهر «فينسنت»، وتبدأ رحلة الخداع المستمر. في المطعم يقنعه بمشهد خداع. يستخدم حبيبته «كارمن» لإقناعه بمصاحبته في رحلة مقامرة وصولاً إلى الدورة الكبرى في «أتلانتيك سيتي»، عن طريق إخافته من أنها قد تمل منه وتتركه. يؤكد عليه أن «المال هو كل شيء»، فأحيانًا عليك أن تخسر حتى تكسب في النهاية. يتفاخر فينسنت مرة أخرى أثناء اللعب فيتركه، ثم يعود إليه. يشتعل الخط الساخن أكثر وأكثر بين «إيدي» و«كارمن» مما يثير حنق فينسنت ولكنه يستمر مع معلمه في الطريق يحققون بعض النجاحات المادية. ولكن تحدث نقطة التحول الكبرى في الفيلم حين يسقط «إيدي» المحتال الأكبر في فخ الاحتيال من قبل طالب أسود يجيد الادعاء هو «آموس» الذي لعب دوره النجم الكبير «فورست ويتكر» في بدايته ونال به جائزة مرموقة عن مشهد واحد. ويشير الناقد أمير العمري إلى أن شخصيات أفلام «سكورسيزي» لا تنطلق من اختيارات مسبقة، بل من أقدار وأحداث تتوالى، تجعلها تجد نفسها وقد أصبحت طرفًا فاعلًا فيها، دون إرادتها أحيانًا وبرغبتها أحيانًا أخرى، فهي تبدو مدفوعة بالإغواء في تحقيق الثراء والصعود أيًا كانت الوسيلة، ولا تستفيق إلا حين تدرك أنها صنعت أهرامًا من الرمال والأوهام مهددة بالسقوط والانهيار. هنا يصاب «إيدي» بأزمة وجودية حادة. وغالبًا ما تكون شخصيات سكورسيزي في صراع وجودي مستمر، وتعيش نوعًا من الضياع، باحثة عن مكان لها في العالم من خلال ما تتعرض له من إفساد أو إغواء من قبل الجانب المظلم في الحياة الإنسانية. من هو إيدي «السريع»؟ إنه مجرد فاشل كبير متحذلق، لم يصبح زوجًا ولا أبًا، ولا يجد ما يفتخر به في حياته سوى سيارته الفاخرة. يدعي أبوة فينسنت في لحظة معركة في البدايات كأنه يعبر عن أمنية داخلية عنده لم تتحقق. وتأتي نقطة التحول تلك في شكل قرار أخلاقي مرتبط بشكل عام بالحياة. وبمجرد اتخاذ هذا القرار يصبح التراجع مُحالاً، حيث على الشخصية أن تقرر مصيرها.
إيدي يتركهم نهائيًا، ويحضر حبيبته «جانيل» لتقويه. ويبدأ في رحلة التدريب البدني والفني والعودة والصعود الخاصة به. يصل ليشارك في أتلانتيك سيتي. حيث يستخدم «سكورسيزي» بحسه اللاهوتي الموسيقي الكنسية المهيبة وهو داخل إلى محراب البلياردو حيث القاعة الكبرى التي تضم مناضد البلياردو التي ستجري عليها البطولة. فينسنت يخسر أمام إيدي في دور ربع النهائي للدورة الكبرى، مما يجعل إيدي يطير فرحًا أنه عاد البطل الذي لا يقهر. ولكن الأخير يزوره هو وكارمن بمظروف متخم بالمال هو حصته من المقامرة على الخسارة المتعمدة، كما علمه أستاذه، وكذلك حتى يتسنى له اللعب في الغرف الخضراء «الملاعب الموازية» وتحقيق المزيد من المال. يجرح كبرياء إيدي «كبطل». ينسحب من الدور قبل النهائي، راكلاً فرصة الفوز بخمسين ألف أخرى، ويتحدى فينسنت في مباراة أخرى للكبرياء. إنها روح التحدي والهواية، تلك التي تصبغ لون المال في النهاية، وكأن الخدعة الأخيرة كانت حقيقة أن «المال ليس دائمًا كل شيء».
إن النقص البشري المتجسد في الشخصيات ذات البوصلة الأخلاقية المشكوك في توجهها، هو جزء أساسي من عالم مارتن سكورسيزي السينمائي. وغالبًا ما يعمل المخرج على تطوير حبكات أفلامه من خلال تحولات شخصياته، ويضع صورة رحلة البطل التقليدية المقدمة في الأفلام موضع التساؤل، ويقدم للجمهور نوعًا جديدًا من الرحلات السينمائية التي لا يمكن أن تتوقع مساراتها السردية أو نهايتها، فضلاً عن غوصها في سياقاتها التاريخية والنفسية، بأسلوب يشف عن لمسات أحد كبار مبدعي الفن السابع.