مشاعل عبدالله
فضول الإنسان لمعرفة الماضي وتحليل أحداثه وتفسير نتائجه في الحضارات القديمة، أنتج لنا المجلدات الضخمة في التاريخ، إذ لكل أمة مؤرخوها وحكاياتها. من الجمل التي نسمعها كثيرًا وتعتبر من المسلمات أن التاريخ يكتبه المنتصر، لكن الكتب والمرويات تثبت لنا أن المنتصر قادر على نشر حكايته ربما بشكل أوسع. لكن المنتصر والمهزوم كليهما يكتب حكايته حسب رؤيته.
السينما فن يعتمد على عدة عوامل من أهمها مقدرة السيناريست على السرد وخلق حكاية متماسكة، ولا يوجد أفضل من كتب التاريخ لتوليد الحكاية ومعالجتها دراميًا.
تقاطع السينما مع التاريخ يخلق معضلة وصراعًا بين السينمائي والمؤرخ، فهل من حق السينمائي خلق رؤية مغايرة عمَّا كتب في صفحات التاريخ، وتغيير الشخصيات، أو إعادة تصور للصراع وإيجاد مسوِّغات له كما يقتضيه السياق الدرامي.
هل يعتبر الفيلم الدرامي جزءًا من التاريخ؟ وبالتالي لا يمكن تغيير جوهره. هل التاريخ مقدس؟ هل مهمة السينما نقد هذه القداسة، أم إعادة كتابتها، أم إسقاطها على الحاضر؟ أعتقد أن السينمائي كما قال المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي “المخرج راوٍ للتاريخ وليس مؤرخًا” مما يمنحه مساحة للتلاعب بالحكاية وشخوصها.
تكتسب الأفلام المستلهمة من التاريخ مكانة مميزة في تاريخ الأفلام، وهذا التميز يعود إلى عوامل عدة منها: شخصية البطل التاريخية، وأثر الحكاية على المجتمع والتغيرات التي أحدثتها في وجدان الأمة، وشرح التفاصيل والهوامش التي لا يعرفها الفرد غير المتخصص في مجال التاريخ، وتقديم لمحة إلى حياة الأفراد خلال حقبة زمنية معينة وطريقة عيشهم.
الأحداث الساخنة التي تعيشها المنطقة العربية هذا الشهر وردود الأفعال العالمية على ما يحدث في غزة، تذكرنا بالأحداث التاريخية التي كانت تجري في تلك البقعة من العالم القديم، عالم الأديان الإبراهيمية والصراع هناك وكيف تناولته السينما. تعتبر شخصية صلاح الدين الأيوبي القائد المسلم من أبرز الشخصيات حضورًا في الذاكرة حينما نسترجع الصراع في القدس قديمًا، فقد توافرت العديد من الصفات التي تجعله ملهمًا لصناع السينما، فهو مقاتل شجاع حقق انتصارات؛ وبالتالي هو يقدم صورة البطل المنتصر، وهو شخصية تحظى باحترام في أوساط كثيرة، وذلك لاهتمامه بالعلم والعلماء والجوانب المعمارية، ومثال ذلك قلعة صلاح الدين في مصر، هذا الثراء في شخصيته يجعله واحدًا من أهم الشخصيات التي تناولتها السينما عربيًا وعالميًا.
يعتبر فيلم «الناصر صلاح الدين» الذي أخرجه يوسف شاهين عام ١٩٦٣ عن قصة يوسف السباعي، ومعالجة درامية قام بها نجيب محفوظ وعز الدين ذو الفقار، وسيناريو وحوار عبدالرحمن الشرقاوي ويوسف شاهين؛ الفيلم التاريخي الأبرز في تاريخ السينما المصرية، وذلك لعدة أسباب منها أن الفيلم ضم الكثير من نجوم السينما في ذلك الوقت مثل: أحمد مظهر ونادية لطفي وصلاح ذو الفقار وليلى فوزي وليلى طاهر وحسين رياض ومحمود المليجي وعمر الحريري وغيرهم، وقام بتصميم الديكور والإكسسوارات مهندس الديكور والمصمم والمخرج الشهير شادي عبدالسلام الذي تحمل أعماله بصمة خاصة قادرة على البقاء بذهن المشاهد. يعتبر الفيلم من أكثر الأفلام تكلفة إنتاج في وقته مما اضطر المنتجة آسيا داغر للاستدانة ورهن عمارتها، ويقال إنها كانت تردد لشاهين جملة “انت حتخرب بيتي” كلما طلب منها مبالغ مالية. وقد تناولت بعض المقالات قصة رفض الرقابة للفيلم في البداية، وذلك لأن المعالجة والنص تعتبر ركيكة مما لا يليق بشخصية صلاح الدين التي تحتل مساحة كبيرة في وجدان المسلمين. واقترحت الرقابة بعض التعديلات وتجويد المعالجة الدرامية، ولم تذكر تلك المقالات هل كانت المغالطات التاريخية من ضمن ملاحظات الرقابة، وإن كنت بصفة شخصية لا أعتقد، لأن الفيلم حافل بالمغالطات التاريخية حتى بعد التعديل واجتيازه الرقابة.
يقدم لنا الفيلم على مدار ٣ ساعات قصة صلاح الدين في معركة حطين ومعارك أخرى دارت بين المسلمين والصليبيين في أرض فلسطين وتعامله مع قادة الحروب الصليبية، بالإضافة إلى قصة حب تنشأ بين الطرفين المتقاتلين. افتتاحية الفيلم تكون بسؤال الناس في الأزقة عن صلاح الدين.
في نقد الأعمال الأدبية والفنية لا يمكننا تجاهل ظروف السياق التاريخي والاجتماعي لصناع المنتج الفني، ويتضح تأثير هذا جليًا في فيلم “الناصر صلاح الدين”، لأن المخرج والكتّاب يقدمون لك الناصر صلاح الدين صاحب رؤية قومية عربية، وأن هذا السبب كان المحرك والدافع له، ولا أعلم كيف تجاهل المخرج والكتّاب فكرة أن صلاح الدين لم يكن عربيًا، بل هو من أصل كردي، ولكن يبدو أنهم أسقطوا ظروفهم التاريخية وحلم عبدالناصر القومي على هذه الشخصية، فكان البحث عن حكاية في التاريخ تذكر بريطانيا وفرنسا بما يمكننا فعله في هذه البقعة الجغرافية! دوافع صلاح الدين كانت من منطلق ديني وحشد الجيوش للحروب كان يقوم على مبدأ نصرة الدين والمقدسات الإسلامية وحفظ دماء المسلمين جميعًا لا العرب فقط. لكن يوسف شاهين وطاقم العمل يصرون على المغالطة من خلال تحويل شخصية عيسى العوام إلى شخصية مسيحية، وهي كما تذكرها كتب التاريخ رجل مسلم أدَّى دورًا هامًا في حصار عكا، فهو لم يكن مرافقًا لصلاح الدين أو واحدًا من رجاله، بل رجل ينقل المراسلات والأطعمة من خلال الغوص والسباحة. ولا نعلم هل لخلفية يوسف شاهين الدينية دور في هذا التغيير، أم أن الضرورة الدرامية حسب رؤية الكتّاب هي التي أدت إلى هذا التحوير الكبير في شخصية عيسى. لم يُسمِّ العرب القدس أورشليم في أدبياتهم، ومنذ البدء كانت القدس أو بيت المقدس، لكننا طوال الفيلم لا نسمع إلا كلمة أورشليم. يقدم شاهين صورة للمسيحي المعتدل وهو (ريتشارد قلب الأسد)، والتاريخ يبين في سطوره أن ريتشارد قتل من المسلمين حوالي ٣٠٠٠ شخص. واللافت أن شاهين لم يقدم جانب شخصية ريتشارد المرتبط بميوله الجنسية المثلية مما يشكل مادة درامية مثيرة يستطيع شاهين بواسطتها تسليط الضوء عليها وإيجاد مسوِّغ لتحول ريتشارد من الشخصية التي نعرفها في كتب التاريخ إلى تلك التي رأينها في عدسة شاهين.
كان حصار عكا وشخصية والي عكا ممتلئة “بالعك” التاريخي، كما يقول الإخوة في مصر، فلم يكن الوالي خائنًا، بل العكس فقد استمات في الدفاع عن مدينته ودام الحصار مدة سنتين، خلافًا لما ورد في الفيلم حيث كانت مدة الحصار يومًا واحدًا فقط! هذا التجاهل للوقت يتضح أيضًا في تناول شاهين للفارق الزمني بين معركة حطين ودخول المسلمين القدس، إذ قدمها شاهين بنفس اليوم، بينما تقدر المصادر أن الفارق الزمني بينهم كان ٣ أشهر!
يقدم شاهين شخصية صلاح الدين من منطلق وتصور أنه شخصية علمانية، فنراه يقول لإحدى السيدات “الدين لله والوطن للجميع”، هذه الجملة لسعد زغلول من الشهرة بمكان بحيث تجعل المشاهد يتيقن أنها لا تتسق مع أحداث الحروب الصليبية. لذا، في كل مرة تتاح لي فرصة مشاهدة فيلم “الناصر صلاح الدين” يراودني هذا السؤال: هل كان شاهين يطمع في تقديم تأصيل تاريخي لشخصية “الناصر” جمال عبدالناصر من خلال هذا الفيلم؟
في عام ٢٠٠٥، قدم المخرج الإنجليزي ريدلي سكوت، فيلمًا عن قصة وليام موناهان وبطولة أورلاندو بلوم وإيفاغرين وغسان مسعود، وكان التصوير في المغرب لمحاولة مقاربة روح المكان.
الفيلم حافل بالصور السينمائية البديعة، وكانت المعالجة الدرامية للفيلم أكثر مهارة من الفيلم المصري، وربما نعزو ذلك إلى أن لب النص السينمائي كان قصة بطل هامشي، حداد بائس وحزين في قرية عقب خسارة زوجته وطفله، لكن الظروف الزمانية هي حقبة الحروب ومعاصرة هذه الشخصيات التاريخية؛ مما منح الفيلم لمسة التوازن فلم ينتصر لطرف دون الآخر. يعرفنا سكوت من خلال الفيلم على مذهب جماعة الهوسبيتاليين ونلمس الصراعات العنصرية بين الأطراف المتنازعة. يقدم الفيلم القدس “أورشليم” كأطلال إرث الديانات الإبراهيمية، فكل أصحاب ديانة يبحثون عن إرثهم هناك في العالم القديم… ويطرح سؤالاً ضمن الحوار: أيها أكثر قداسة: الحائط، أم المسجد، أم قبر المسيح في كنيسة القيامة؟
خلال الفيلم نعيش مع البطل رحلة البحث عن المغفرة وتكفير الخطايا وكأنها مقاربة لفكرة الحج في زمن الحروب الصليبية، لذا ينتقل بلوم (الحداد باليان) من قرية فرنسية إلى القدس للمشاركة في الحروب بين المسيحيين والمسلمين. يقوم الحداد بهذه الرحلة لأن القدس هي قلب العالم لطلب المغفرة.
ينتابني الفضول ماذا لو قدم جان لوك غودار رؤيته الخاصة كفرنسي عن هذه الحرب التي خاضتها مدينة القدس، خصوصًا أن غودار يمتلك رؤية ورأيًا متفردًا في الأمور الاجتماعية والسياسية، وهو قادر على خلق حكاية هامشية متماسكة لا يمكنك كمشاهد الهرب منها.