سلطان القثامي
يمنحنا المكان السينمائي فضاء لخلق المعنى واكتماله، وذلك من خلال فرصة درامية تتواصل فيها الشخصيات مع الأشياء. والأماكن، وإن تبدوا جامدة، فهي ليست خاملة. بل ذات طاقات حيّة ومؤثرة في تطور الشخصية السينمائية. ربما لم تُظهِر النصوص السينمائية السعودية بشكل لافت حتى اليوم، في توظيفها للحدث السينمائي، القدرات الكامنة للموقع الجغرافي. فهي لا يعوزها مهارة ربط المشاهد بالمكان أو تفعيل مشاعره المتضاربة، من حزن وفرح ونفور وحنين، تجاه بيئةٍ معينة في العمل، بل إنها لم تعبّر فقط عن إمكاناتها في خلق تفاعل حيّ بين المكان والشخصيات، بحيث يظهر الحدث في العمل السينمائي كعملية مشتركة بين طرفين ويؤثر كل منهما في الآخر، وذلك عبر التقاط اللحظات الدقيقة التي تصنع حدثًا حاسمًا في التجربة، بحيث لا يمكن التغاضي عنه كعنصر هام في التمثيل السينمائي. لكن المكان ليس فقط البقعة الجغرافية وموقع الحدث، ولكنه أكثر من ذلك. هو الروح التي تصلنا وتخاطبنا وتنعكس في الشخصيات. وهي الوعي الذي يُنبئنا عن موقعنا من التاريخ والعالم.
وعن أهمية هذا المكان في العمل الفني السعودي بالتحديد، تقول الروائية السعودية رجاء عالم عن علاقتها بالمكان: «أنا أنتمي إلى تيار من التفكير وليس قطعة أرض، إلى تيار يسري في كل مكان. في مكة، شعرتُ أنني أنتمي، ليس إلى الاحتفالات التي يُؤدّيها الآلاف من الناس ولكن إلى الروح التي كانت تصلني وحدي. شعرت بطريقةٍ ما أنني كنت أرى ما وراء الأشياء، ما وراء وهج البدر. أشعر بالبهجة التي تشعر بها عندما تصلُ إلى القوة الكامنة وراء الأشياء». فعندما تقرأ لرجاء عالم ستلحظ تمامًا أن السر خلف تماسك السيناريو يكمن في التركيبة التي تنطبع بها في مخيلتك روح مدينة مكة وتفاصيلها الجغرافية التي تظهر كصورة مصغرة لجغرافيا الحجاز بشكل عام في أواخر القرن العشرين. وما يحفز كتابة النصوص الفنية هو الاستجابة السريعة للأثر العميق الذي تتركه الأماكن فينا ويسكننا وكأن هذه الأماكن «خرائط روحية» حقيقية نحملها ليس كذكرى بل كعضوٍ حيوي من جغرافيات أجسادنا وعقولنا، نشعر به ونتفاعل معه باستمرار.
في فِيلمَي «سطار» و«حد الطار» مشاهد واقعية نُقِلَت بتقنيات متفاوتة. فقد أبدى المخرجان ميلاً لتوثيق جزء من معالم المدينة، واكتفت نصوصهم في النقل فقط، وتثبيط أثر الفضاء العام على ساكنيه. وفي الفيلمين تظهر هوية المكان للمشاهد في شخوص المدينة عوضًا عن الشخصيات. فتكاد تخلو ردات فعل الشخصيات من ما وراء الأشياء، أي من إبداء مشاعرهم تجاه الشوارع والمنازل وكل ما يكمّل الشكل العام للحي والمدينة، ومثل ذلك مما يشخّص علاقة الفرد بالمكان الذي يعيشه فيه ويستحوذ بذلك على وعيه وأحاسيسه.
إحدى طرق تجسيد المكان عند الكاتب السينمائي هي تركيز تقنياته لهدف سعيه الدائم لقياس التحول الاجتماعي ليس من منظور تطور الشخصيات أو عدمه، ولكن أيضًا من ناحية سطوة المكان على مرتاديه، فهو ليس ساحة تستضيف الحدث فحسب، ولكنها قوة ومحور مهم في صناعة الحدث والتفاعل معه. في الفيلمين سعي جاد نحو إبراز الثقافة المرتبطة بهذا المكان، لكنها محدودة التأثير وقلّما نلحظ أثرها في صراعات الشخصيات. ومعها تتوارى خصوصية الحي والمدينة والشخصيات المرتبطة بهذه الأماكن.
أرى في فيلم «حد الطار» أكثر التزامًا في تجسيد هذه الروح المكانية في شخصياته. فالبيئة المُعدَمة تؤثر وتتأثر بالواقع الاجتماعي للشخصيات. وكأنها تحكم على ما يعيش بداخلها بالألم المؤبد وقلة الحيلة، ولكن في الوقت نفسه تمنحهم الرضا والبساطة. لكن هذا التأثير ظاهر للمشاهد وخفي في اللغة المباشرة والرمزية للفيلم. لذلك لا تكاد ترى حوارًا بين الشخصيات يكون محوره هذه الروح المسيطرة للمكان، فهو لا يخلق همًّا حقيقيًا بالرغم من كونه لبنة أساسية في تشكيل وعي هذه الشخصيات. فالمكان يحدد علاقات اجتماعية كثيرة وهو مرتبط في نفوس وعقول سكانه بأنه القوة التي تحدد مصير الطبقة والعرق والهويات بشكل عام. وهنا يمكن القول إن السينما هي المكان والعكس صحيح.
ومع التجربة السينمائية المتسارعة في مجتمعنا نتطلع أن نعيش الأماكن التي تستضيفنا ونستضيفها من خلال شاشات السينما، وفي واقع مُتَخَيَّل حتى تكتمل التجربة الاجتماعية المنشودة في النص السينمائي.