عبدالله الزيد
«أريد مزيدًا من العمر كي نلتقي.. ومزيدًا من الاغتراب».. هذا البيت نهاية «مزمورية» بديعة من قصيدة للمدهش – غالبًا – محمود درويش، أوردها هنا من حيث النهاية؛ لأن فلسفة البداية من حيث النهاية هي – أيضًا – جزء من حبكة «عرق البلح» الفيلم الذي كتبه وأخرجه رضوان الكاشف، وكعادة نوادر «الكاشف» السينمائية لم تنل هذه التحفة حقها من المشاهدة والنقد والتذكير!
في «عرق البلح» كانت البداية من حيث العودة.. إنها عودة الغائب المجهول إلى قرية «النجع» مكان الحدث في الفيلم؛ إحدى قرى صعيد مصر، التي هجرها سكانها ورحلوا! ولكن هل يصح أن تبدأ حكاية الرحيل بالعودة؟ لقد أجاب «الكاشف»، نعم. وأظنه قصد تجريد الحدث وعزل الحكاية عن زمانها ومكانها، فقصة أهالي قرية «النجع» أكبر من مجرد اختزالها بقرية صعيدية صغيرة طوى أهلها النسيان! ولذا انطلق الفيلم بفكرة تعميمية ملخصها أن الحياة حالة دائمة من الغياب والشهود، وكما يقول هيرقليتوس في شذراته:
«هي هكذا الحياة دائمًا اشتعال وانطفاء.. نار تخبو هنا، فتشتعل هنالك.. لا شيء ثابت»، وهو ذات التجريد والتعميم الذي انطلق منه «فيلم عرق البلح» ليقدم لنا الحالة الإنسانية متجسدة في الغريب القادم من العدم، والذي قام بدوره «عبدالله محمود». والعدم في «عرق البلح» دائمًا ما يأتينا عبر معادل موضوعي هو الصحراء الصامتة، حيث البداية جاءت من الصحراء وانتهت إليها من خلال دائرة من الولادة والذبول، ثم البداية من حيث النهاية!
في «عرق البلح» لم تكن القصة عن الراحلين بعيدًا عن قرية النجع، والذين ظهروا لنا في الفيلم على شكل «رسائل لا تُقرأ» إلى أن مارسوا الهجرة لذواتهم وعادوا هاربين إليها، فظهروا مرة أخرى ضمن أحداث الفيلم! بل كانت حول هجرة أهالي «النجع» بعيدًا عن شخصياتهم النمطية الجاهزة، التي أنتجها المجتمع ولبسها أبطال الفيلم ببراءة طفولية تلخصت بأغنية «بيبة عمي حمادة» التي أبدع فيها الشاعر الأبنودي ليروي لنا ترنيمة لعجز الذات أمام رغباتها التي لا حدود لها!
هذه الأغنية الطفولية والراقصة ذكرتني بمشهد لمحمد أبو سويلم «المليجي» في فيلم «الأرض» حينما ردد بعجز هو الآخر «الناس عايزة الأرض والأرض عايزة المية والمية عايزة الوسطة والوسطة عايزة السرايا». إنها ذات السلسلة اللفظية التي تفصح عن اغتراب وعجز الإنسان عن تحقيق رغباته! وقد رقصت نساء «عرق البلح» رقصة العجز الطفولية المشبعة بالرغبات التي لا تنتهي في لوحة عبرت عن نقطة تحول حيث وصول ذواتهم إلى مرفأ الرغبة والجحيم الذي جاء مع حالة السُكْر في «عرق البلح”.. والسُكْر هنا هو فقدان الشخصية الاجتماعية المغتربة عبر الرحيل نحو الذات! كانت نساء قرية «النجع» مجرد هويات جاهزة ومستسلمة للوظيفة المثالية، والتي يعد الخروج عليها انحراف وعار وجريمة يمكن أن تفقد حياتك لأجلها. لقد شاء صنَّاع العمل أن يقولوا إن الهجرة والرحيل يمكن أن تكون وأنت في بيتك، وبين أهلك، حيث ذاتك تبتعد عنك كما يبتعد الغريب!
هذا الإتقان الرمزي والشعري في الحكاية لم يكن بحسب رأيي المتواضع بذات المستوى في كامل الفيلم، ففي المشاهد الأولى قدم الكاتب ومخرج العمل معالجة قد أراها تبريرية وتبسيطية عبر مجموعة من المسلحين يريدون ترحيل أهالي القرية الهادئة ترحيلاً جبريًا! وهي معالجة تبريرية مباشرة وللأسف ضعيفة! وكنت أتأمل أن يكون الدخول للصراع بنفس مستوى اللغة التجريدية التي انطلق منه الفيلم عبر الكشف عن صراع الرغبات الإنسانية «جدل العبد والسيد الهيجلي»، فحينما ترحل فأنت ترحل باختيارك، وبمجرد أن تنهزم الذات في صراع الرغبات فأنت أمام أحد خيارين: إما «الموت» أو «العبودية».. وهذا ما حدث لنساء وسكان قرية النجع!
أخيرًا، قدم لنا «عرق البلح» عبرة مُعتَّقة تصلح لكل زمان ومكان، فحينما ننوي الرحيل في هذه الحياة؛ ونحن راحلون لا محالة سواء كنا كارهين أو راضين، وقبل أن تأتي هذه اللحظة أذكر نفسي وإياكم بمطلع قصيدة محمود درويش المذكورة آنفًا؛ وحتى ننهي الحكاية من البداية كما بدأناها من النهاية:
أريد مزيدًا من العمر كي يعرف القلب أهله.. وكي أستطيع الرجوع إلى ساعة من تراب!