مشاعل عبدالله
ماذا لو أن لشكسبير أختًا تمتلك ذات الموهبة التي كان يمتلكها، فهل كانت ستحقق ذات الشهرة التي حققها أخوها؟ هذا السؤال طرحته فيرجينا وولف في كتابها «غرفة تخص المرء وحده»، الذي كان في الأصل عبارة عن محاضرات ألقتها في جامعة كامبريدج عام 1928.
ركزت فيرجينا في كتابها على أن شروط توافر عوامل الإبداع النسوي في مجال الكتابة يكمن في أهمية امتلاك المرأة للاستقلالية المادية وغرفة خاصة تمارس فيها طقوس الكتابة دون أن تضطر إلى الكتابة في غرفة مشتركة مع أفراد العائلة وأن تكون بعيدة عن الالتزامات الاجتماعية.
عبرت السينما العربية والعالمية عن المرأة العاملة وهمومها والمتاعب التي تواجهها في كثير من الأفلام. تواجه المرأة العاملة مستويات متنوعة من التحديات في بيئة العمل وحياتها الشخصية، سواءً كانت عزباء أم متزوجة ولديها أولاد. السينما هي انعكاس الحياة على الشاشة، لذا لم تغفل عدسة السينما المصرية عن مراحل تطور أو تدرج المرأة الوظيفي وعلاقته بحياتها الاجتماعية.
على سبيل المثال، تناولت السينما المصرية اقتحام النساء للحصن الذكوري ممثلاً في شركة التنقيب عن البترول من خلال الفيلم الكوميدي «للرجال فقط»، والذي أخرجه محمود ذو الفقار عام ١٩٦٤، ولا يزال عالقًا في أذهان محبي السينما المصرية. الفيلم يقدم قصة حب لطيفة من خلال مفارقات كوميدية أثناء تنكر الشابتين بالزي الذكوري للحصول على فرصة العمل في مجال التنقيب، الذي يحتكره الرجال بحكم قساوة متطلبات الوظيفة.
أمَّا علي بدرخان، فقدم صورة الموظفة سهام التي تعيش مع خالها وزوجته في فيلم «أهل القمة» وناقش قضية الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته مصر في عصر السادات. كانت سهام الجسر الذي يربط بين خالها الضابط الذي يمثل القيم الأخلاقية، وبين زعتر الذي يمثل اللصوصية والتهريب. أمَّا شريف عرفة، فجعل الموظفة هي السلعة في فيلم «المنسي» عام 1993، حينما نرى السكرتيرة غادة، التي تقوم بدورها يسرا، هاربة من الحفل الذي يسعى فيه مديرها تقديمها لرجل أعمال ثري حتى يتم صفقة تجارية فتلتقي بيوسف المنسي، الذي يقوم بدوره عادل إمام. أمَّا عاطف الطيب، فيصور لنا في فيلم «ملف في الآداب» عن قصة وسيناريو وحيد حامد، حياة ٣ موظفات في شركة تتحول فترة راحتهن بين ورديات الشركة إلى نقمة تغير مسار حياتهن. ولا يمكننا الحديث عن عالم النساء ونتجاهل المخرج محمد خان، الذي برع في تناول قضاياهن بشفافية عالية وعبر عنها، فمثلاً هيام التي قامت بدورها ياسمين رئيس في فيلم «فتاة المصنع» مثال لصراعات الروح الحرة الشفافة لفتاة عاملة مع الحب والحياة والتقاليد.
حياة المرأة العاملة المتزوجة قادرة على تقديم مادة خصبة للدراما؛ لأن المعاناة، وبالتالي المعالجة الدرامية، من الممكن تناولهما بزوايا مختلفة، فمثلاً تأثير الأمومة على السيدة وعلاقتها بالعمل وشريك حياتها تم تناوله في فيلم «صباح الخير يا زوجتي العزيزة» من إخراج عبدالمنعم شكري، وبطولة صلاح ذو الفقار ونيللي وتحية كاريوكا عام 1969. هذه الضغوط التي تقع على عاتقها، وربما تكون أكثر من قدرتها على التحمل، قد تدفعها للهرب بعيدًا عن واقعها، كما فعل رأفت الميهي بشكل فانتازيا في فيلم «السادة الرجال» عام 1987، من بطولة معالي زايد ومحمود عبدالعزيز. ويزداد الوضع سوءًا مع غياب الأب عن المشهد. وهذا الوضع لم تغفله السينما المصرية فقدمته في فيلم «إمبراطورية ميم» للمخرج حسين كمال، والذي يعتبر من كلاسيكيات السينما المصرية، وهو إنتاج عام ١٩٧٢.
تبدو سنوات الستينيات في السينما المصرية هي الفترة الذهبية للأفلام التي ناقشت قضية عمل المرأة بشكل واضح ومباشر، وربما يبدو هذا انعكاس للتطور المهني الذي أحرزته المرأة المصرية. ففي عام 1962 تقلدت حكمت أبو زيد منصب وزيرة في الحكومة المصرية، هذا الحضور في الفضاء العام انعكس على الدراما لاحقًا. ففي عام 1966 قدمت السينما المصرية فيلم «مراتي مدير عام» من إخراج فطين عبدالوهاب عن قصة عبدالحميد جودة السحار، وبطولة شادية وصلاح ذو الفقار، وهو فيلم تقدمي حسب مقاييس عصره. تبدأ افتتاحية الفيلم بمشاهد مبهجة، فنرى الزوج يساعد زوجته في ترتيب منزلهما بعد انتهاء الحفلة المقامة على شرف تعيينها مديرة في إحدى المصالح الحكومية؛ مما يمنحنا لمحة عن استقرار الحياة بين عصمت «شادية» وحسين «صلاح ذو الفقار». في المشاهد الأولى نرى شادية زوجة محبة ومغناجًا، والحوار بينهما في المشاهد الأولى يلمح إلى الصعوبات التي تواجهها المرأة العاملة تحديدًا في المناصب القيادية، وأن جهودها لا بد أن تكون مضاعفة؛ لأن المجتمع ينظر إليها بارتياب، فلا بد من إثبات الجدارة، أو كما قال حسين إن أسلافه أزالوا عن عاتقه فكرة إثبات الجدارة. وهذا يعيدنا إلى غرفة فيرجينا وولف في افتتاحية المقالة! يتحول حسين من زوج محب لزوج مأزوم حينما يكتشف أن زوجته أصبحت مديرته. أزمة حسين تكمن في نظرة «الآخر»، لأنه يعلم ما الذي يدور في أذهان زملائه داخل أروقة المصلحة ونظرتهم للمديرة، ويحرص حسين على إخفاء علاقتهما عن زملائه. الفيلم يقدم شخصيات متنوعة، بالتالي نرى وجهات نظر متباينة تجاه المرأة القائدة.
فالشخصية ذات الخلفية الدينية تواجه معضلة التعامل معها من منطلق موقف الآراء الفقهية في قضية مصافحة الرجل للنساء؛ والرجل النمام الذي يلمح أن نجاح المرأة مرهون بمقدار التنازلات التي تقدمها لا جدارتها، مما يجعلها دومًا في موضع التشكيك؛ والشاب الذي لا يحمل خبرة في الحياة يتعامل معها كسيدة يحاول تحليل شخصيتها وتطبيق النظريات التي تتحدث عن فن التعامل مع الأنثى، مما يعزز الفكرة النمطية أن المرأة كائن مختلف. هذه النظرة لا تقتصر على الرجال، ولكن حتى النساء يعبرن عن رأيهن، فالموظفة في تلك المصلحة الحكومية مؤمنة أن نجاح النساء يكمن في الوظائف التي تنطوي على الرعاية كالتعليم والتطبيب أو الهندسة، لكن حتمًا ليست الإدارة، وذلك لتعارضها مع ظروف المرأة البيولوجية من حمل وإنجاب؛ بالإضافة إلى انتقاد المظاهر الشكلية كتسريحة الشعر والذوق الشخصي في اختيار الأزياء.
طوال الفيلم نرى صراع شادية بين إثبات جدارتها وكسب ثقة العاملين تحت إدارتها والمسؤولين عنها في الوزارة، وتحطيم الجمود والأفكار الرجعية التي تسيطر على بيئة العمل، وترميم التصدع الذي طرأ على علاقتها بزوجها لدرجة إقدامها على طلب تغيير مكان العمل. ينتهي الفيلم كجميع قصص الحب الخيالية بنهاية سعيدة، فنرى قبل كلمة النهاية كلاً من شادية وصلاح في الشارع يدفعان سيارتهما وكأنهما يدفعان حياتهما نحو الأمام سويًا، والطريق معبد ومتسع تحت ضياء الشمس.
بعد عشر سنوات تقدم لنا السينما السوفييتية فيلمًا يعتبر من أيقونات السينما في تلك الحقبة وأكثرها مشاهدة، وهو فيلم «office roman»، فالمديرة هنا سيدة في نهاية الثلاثينيات ذات منظر رصين جدًا، لا تمتلك حياة اجتماعية، لذا كرست جل وقتها للعمل، ومن ثَمَّ حققت النجاح المهني؛ وهذا يعزز نظرية فيرجينا وولف أن أهم سبب لبلوغ الكاتبة المجد الأدبي هو قدرتها علـى التخلي عن الواجبات الاجتماعية. الفيلم يتناول نماذج متعددة من النساء العاملات، ومن بين كل النماذج تبدو المديرة مختلفة من ناحية الحضور الأنثوي أو الأناقة، وهذا يبدو متسقًا مع الجملة التي وردت في حوار بين الموظفين إنها ليست امرأة هي مديرة.
تنمو علاقة عاطفية بينها وبين موظف تحت إدارتها، قادر على تلمس مواطن الجمال في روحها، هذا الحب يبعث رماد الأنثى بداخلها، والذي انطفأ إثر علاقة سابقة حفرت بداخلها جرحًا غائرًا؛ نراها تكتشف الأحذية ذات الكعب العالي والفساتين وتجربة تزجيج الحواجب. الفيلم يقدم صورًا سينمائية رائعة لشوارع موسكو في السبعينيات، وموسيقى جميلة، وحوارًا ذكيًا وساخرًا. ومن المفارقات أن الفيلم ينتهي بمشهد سيارة مثل فيلم «مراتي مدير عام»، ولكن الأبطال بداخل السيارة يتبادلون القبلات.
أعيد تقديم الفيلم بشكل معاصر عام ٢٠١١ تحت عنوان «office romance. our time» وقام بالبطولة فولوديمير زيلينسكي. وأعتقد أني سأنتصر للنسخة الأصلية لتفوقها فنيًا، ولقدرة المخرج الفائقة على الاهتمام بالتفاصيل التي منحت القصة مصداقية وقبولاً أكثر.
رغم رحلة السينما السعودية القصيرة، فإننا لا يمكننا تجاهل فيلم «المرشحة المثالية» من إخراج المخرجة السعودية هيفاء المنصور، وبطولة ميلا الزهراني، وتم إنتاجه عام ٢٠١٩. يروي الفيلم حكاية طبيبة سعودية تُدعى مريم وصراعها لترشيح نفسها في المجلس البلدي، ونكتشف منذ مشهد البداية معضلة إثبات الكفاءة، ففي مقدمة الفيلم نجد الطبيبة وجهًا لوجه مع مريض يشكك في جدارتها من باب «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». وتأخذنا عدسة هيفاء لتفاصيل حياة مريم بين المستشفى والبيت والشارع؛ لنتعرف على المعارك الصغيرة التي تخوضها مريم. تفشل مريم في الترشيح، لكنها تكسب الأهم، وهو ثقة الآخر وإيمانه بها.
يبدو لي اختيار اسم مريم كان اختيارًا ذكيًا من قبل صناع الفيلم، فالاسم عالمي.. مريم هي ماريا ومريام، وفي القرآن كانت مريم هي العابدة وخادمة الدين، فلا يمكن أن يرد اسم مريم على مسامعنا ونتجاهل قصتها مع المحراب، وابتعادها عن الناس.
مريم هي أم المسيح وأخت هارون.. لكل ديانة نسختها الخاصة بمريم، لكن يتفقون على تضحياتها.. كذلك «مريم» مرشحتنا المثالية.
في مسيرة المرأة السعودية المهنية الكثير مما يستحق أن يُروى، ولا سيَّما في جيل الرائدات اللواتي كسرنا القيود، وبعض الحكايات الطريفة التي تضج بها مواقع التواصل الاجتماعي تنتظر قلمًا بارعًا يخلق منها حكاية مصورة على الشاشة.