أمين صالح
ثمة أفلام تحرص على مشاهدتها المرّة تلو الأخرى، وعبر سنوات طويلة، من دون أن تشبع أو تمل، أو تفقد حماسك. هذه العلاقة الحميمة تستمر لأعوام، وقد تظل قوية ومتجدّدة لسنوات طويلة مقبلة.
هي أفلام صمدت أمام امتحان الزمن، وليست مرشحة للنسيان. تظل عالقة في ذاكرتنا، لا تريد أن تفارق. لا يخبو حضورها، لا يبهت، لا يتضاءل. يسطع حضورها بين الحين والحين. أفلام تكبر معنا.. تمامًا مثل الأصدقاء.
أفلام عظيمة تنعشك، تنتشلك من حالة السكون والبلادة والضجر، تحرّك مشاعرك وأفكارك. تجعلك تتصل بأعماقك، بأحاسيسك، بالكامن تحت عتبة الوعي. تجعلك تهتم، تكترث، تؤمن بالاحتمالات. تجعلك تشعر بأنك حيّ.
هي تخاطبنا. تُظهر لنا ما لا نراه. تمنحنا بسخاء ما ينكره ويحرّمه علينا واقعنا. لا تزعم أنها تنقذ البشرية أو تغيّر العالم، لكنها قادرة أن تساعدنا في فهم أمور معيّنة، عن ذواتنا وعن الآخرين. تعلّمنا أن نكون مفتونين بالأشياء اليومية، وأن نتواصل مع ماضينا. تحقّق لنا ما لا يمكن تحقيقه في الحياة.
الفيلم – في تعريفه الأمثل – هو اكتشاف الخارق والمعجز في الحياة اليومية. إذا كان الواقع يتسم بالمألوفية، بالتكرار، بالرتابة، بالروتين الذي هو نوع من الوجود الآلي، فإن واقع الفيلم يضم اليومي والسحري، المادي والروحي.
الأفلام نوافذ، منها نطل على حيوات أخرى، ثقافات أخرى، بيئات متنوعة، عادات غير مألوفة. للأفلام قوة، طاقة. تفتح لنا أبوابًا نحو عوالم أخرى. هي أشبه بمرايا متوهجة تعكس الضوء والصوت والحركة. الأفلام حيوات موازية.. تأسر، وتفتن، وتغوي.
الكثيرون يكتفون بمشاهدة الفيلم مرّة واحدة، وبذلك لا يكون تقييمهم دقيقًا، لأنهم لا يستطيعون الإحاطة بكل شيء، أو استيعاب مضمونه. بينما عندما تعيد مشاهدته، في كل مرّة تلحظ، أو تكتشف، شيئًا مختلفًا.. سواء في القصة أو التمثيل أو التصوير، أو غير ذلك من عناصر العمل. أحيانًا تعيد مشاهدة فيلم، بعد سنوات، فيبدو كما لو تشاهده للمرة الأولى.
أعمق الأفلام هي تلك التي لا تبيح نفسها، ولا تمنح نفسها، منذ العرض الأول. تلك التي تزداد غموضًا وإغواءً.
ثمة أفلام لا تعجبك من المشاهدة الأولى، وربما تسأم منها بعد دقائق فلا تكمل مشاهدتها. غير أنها مع مرور الوقت، مع نضوجك، مع اكتسابك للكثير من المعرفة والتجربة، مع ما تطرأ عليك من تحوّلات فكرية ونفسية، ربما تتذكر ذلك الفيلم وتعيد مشاهدته، فتكتشف أنه أكثر جدّة ونضارة مما توقّعت، وأنه صار يتمتع بجاذبية مدهشة، وأنه اكتسب قيمة وأهمية تضعه في مصاف الأفلام المفضلة لديك.
كثيرة هي الأفلام التي وقعت في غرامها. عندما أحاول تذكّرها، أراها تتوافد نحوي وتحتشد أمامي.. كلها عظيمة وجميلة. ولا مجال للانتقاء والتفضيل.