مشاعل عبدالله
«إنني أذهب إلى الحرب لأن الحياة التي أحياها هنا لا تناسبني» تبدو الحرب بنظر أندريه بولكونسكي أحد أبطال رواية الحرب والسلم لليو تولستوي سبيلاً للخلاص. في الحياة لا تبدو الحرب بهذه الصورة الشعرية، الحرب لم تكن باب نجاة للإنسان لكنها كانت بابًا ينفذ منه الفقد والفراق والقلق والمصير المجهول، هي رحلة لوجهة بلا تذكرة عودة. يدخل الجندي المعركة باحتمالات عدة متناقضة، فهو يرهن عمره مقابل الانتصار والمجد، وفي حالة خسارة هذا الرهان فإن الموت أو الأسر أو الإصابة هي النتيجة المحتومة.
تناولت السينما المصرية ثيمة الحرب في أفلام عدة وكانت القصص التي دارت في ساحة المعركة وعلى الجبهة الخط الدرامي الأساسي للفيلم، وفي أفلام أخرى كانت الحرب هي جزء صغير من الرواية.
في عام ١٩٦٣ أخرج يوسف شاهين فيلم «الناصر صلاح الدين»، وهو فيلم تاريخي يتناول حياة صلاح الدين الأيوبي ويعتبر من أيقونات السينما المصرية.
ربما تبدو الحرب العالمية الثانية هي أكثر حرب تم تناولها في السينما العالمية حسب الرؤية والأيديولوجية الخاصة لكل دولة عن تأثير الحرب عليها. فالسينما اليابانية تناولتها بشكل مختلف عن الأميركية، والسرد البصري الألماني لا يتشابه مع الروسي. ومصر لم تكن بعيدة عن هذا الحراك، رغم أن الإنتاج الدرامي ربما لا يتساوى مع الأثر الذي تركته هذه الحرب عليها، فكانت أغلب المعالجات الدرامية لموضوع الحرب العالمية عن المجتمع بشكل عام، وليس الحرب ذاتها وساحة المعركة. ومن أفلام هذه المرحلة «لعبة الست» من إخراج ولي الدين سامح، و«خان الخليلي» من إخراج عاطف سالم والقصة لنجيب محفوظ، و«حكمت فهمي» من إخراج حسام الدين مصطفى عن قصة الجاسوسة التي كانت تعمل لصالح ألمانيا، وقدم القصة دراميًا بشير الديك، وفي ذات الفترة الزمنية يقدم يوسف شاهين فيلم «إسكندرية ليه».
خاضت الدول العربية في العصر الحديث حروبًا تركت أثرًا في وجدان الشعوب، لكن السينما لم تتناولها بشكل يقترب من أثرها، خصوصًا حرب عام ١٩٦٧ أو ما يُعرف باسم النكسة، وربما في تأمل هذا الاسم الذي أطلقه محمد حسنين هيكل عن هزيمة وخسارة العرب والفاجعة التي سكنت البيوت العربية جميعًا في حرب الأيام الستة، إجابة عن: لماذا كانت السينما عاجزة عن تقديم الحكاية بشكل درامي؟ فالأعمال الدرامية التي تتناول هذه الحرب محدودة مقارنة بالأفلام التي تتحدث عن انتصارات أكتوبر، في الدراما كانت النكسة مدخلاً للانتصار والأمل.
تأثير النكسة على الدراما المصرية يشابه تأثيرها على السينما الألمانية في السنوات الخمس الأولى بعد الحرب، من حيث زيادة معدل إنتاج الأفلام الكوميدية والخفيفة التي هي ربما محاولة لتناسي ما حدث في أرض المعركة، وهذا يذكرنا بوظيفة الفن كأداة للتنفيس. قدم شاهين عام ١٩٧٠ فيلم «الاختيار» الذي استعرض حياة المثقفين والأدباء في مصر بعد الحرب، هذا التشتت والضياع الذي قادهم لمستشفى الأمراض العقلية، هو ربما ما أفقد الفنان ثقته في كل ما يـؤمن به. فعلى سبيل المثال جاهين الذي كتب «بالأحضان يا بلادنا يا حلوة بالأحضان» كتب بعد النكسة نعيمة الماضية في فيلم «خلي بالك من زوزو» الذي أخرجه حسن الإمام عام ١٩٧٢.
وفي نفس العام قدمت السينما المصرية فيلمين عن النكسة: الأول أخرجه يوسف شاهين وهو فيلم «العصفور» الذي يعبر عن هذه المرحلة، كانت «بهية» التي قامت بدورها محسنة توفيق هي صوت الأمل والعزيمة. أعتقد أن اسم بهية هي محاولة اتكاء على التأويل والبعد الذي يحمله اسم بهية في الذهنية المصرية، خصوصًا في ثلاثية نجيب سرور، التي صدرت في الستينيات.
بهية هي المقاومة والحرب وكلمة لا! أما الفيلم الثاني، فكان من إخراج علي عبدالخالق، ويعرض لنا مأساة خمسة جنود من قوات المشاة. في هذا الفيلم نشعر بوطأة العزلة والهزيمة والغصة.
حمل أكتوبر ١٩٧٣ أعظم انتصار في ساحة المعارك بين العرب وإسرائيل، استعاد العرب أراضيهم المنهوبة ومعها استعادوا الأمل والكرامة والشعور بالزهو. لذا، لا غرابة أن تكون حصة هذه الحرب أكبر من غيرها في المعالجة الدرامية، فكما يقال للنصر ألف أب، أما الهزيمة فيتيمة.
بعض الأفلام استحضرت النكسة وحرب الاستنزاف في السياق الدرامي كتوطئة أو مدخل للحكاية، ومثال ذلك ما قدمته المخرجة المصرية في فيلم «الطريق إلى إيلات»، وفيلم «حكايات الغريب» عن رواية لجمال الغيطاني. حتى المسرح السوري قدم الحكاية بشكل رمزي في مسرحية «ضيعة تشرين» التي كتبها محمد الماغوط وأخرجها للتلفزيون خلدون المالح عام ١٩٧٤.
تميزت الأفلام التي تناولت حرب أكتوبر بمنحها بعدًا أعمق للعلاقة مع المرأة وتأثير الحرب والمصاعب التي شهدوها في أرض المعركة على تعاطيهم مع الحب. ويتضح ذلك في فيلم «حتى آخر العمر» من إخراج أشرف فهمي عن قصة يوسف السباعي، وفيلم «الرصاصة لا تزال في جيبي» للمخرج حسام الدين مصطفى عن قصة إحسان عبدالقدوس، في هذا الفيلم تكون الطبيعة والجمال والمياه حاضرة وبوفرة في المشاهد بين الحبيبين مقارنة بالاتساع والفراغ والصمت والصحراء في ذكر الحرب.
فيلم «المواطن مصري» لصلاح أبو سيف عن رواية يوسف القعيد، فيلم عصي على النسيان في ذاكرة من شاهده. فهو مليء بالصور الرمزية والكادرات الجميلة مثل صور السادات وعبدالناصر في بيت العمدة والفلاح.
لم تكن السينما المصرية أنانية طوال تاريخها ولم يقتصر تناولها لثيمة الحرب على الحرب المصرية، لكنها تناولت أثر الحرب اللبنانية ضمن ظروف شخصية البطل اللبناني في الفيلم المصري، وكان نجم هذا التيار الفنان وليد توفيق، فقدمت السينما فيلم «من يطفي النار» من إخراج المخرج اللبناني محمد سلمان، وبطولة فريد شوقي ورغدة ووليد توفيق الذي غنى فيه الأغنية التي لا تزال ترافقنا في أعياد الميلاد وهي أغنية «انزل يا جميل في الساحة». وأيضًا فيلم «قمر الليل» وهو أيضًا من إخراج محمد سلمان، في هذا الفيلم نرى الشاب اللبناني ينقذ الشابة الجميلة الثرية ليلى علوي من محاولة الانتحار على كوبري ٦ أكتوبر، وتبدأ بعد ذلك علاقة حب بينهما. أكتوبر في السينما لم يكن فقط انتصار الشعب، لكنه موعد مع الحياة والحب.
في ذاكرتنا كسعوديين حكايات كثيرة ترافقت مع الحرب مثل معارك تأسيس المملكة، وحرب الخليج الثانية، والصراع مع الحوثي في الجنوب. هذه التجارب الممتدة عبر الزمن في ساحة المعركة قادرة على تكوين أفلام درامية جيدة في حال توفر لها كتاب سيناريو محترفون. نأمل أن يتطرق الحراك السينمائي لهذا المجال لنروي الحكاية كما عرفناها، وألا تقف تجربتنا في رواية قصتنا على حكايات عبدالمحسن المطيري في الفيلم الوثائقي «من ذاكرة الشمال»، التي لامستنا بشفافية وقرب؛ لأنها جزء من ذاكرة المجتمع التي لم تُنسَ ولا تزال آثارها حاضرة في الأذهان.