غفران قسَّام
المعمار السينمائي والتصوير الواقعي
بحثت جوليانا برونو Giuliana Bruno في كتابها: «أطلس العاطفة: رحلات في فن المعمار» والفيلم Atlas of Emotion: Journeys in Art, Architecture, and Film في مفهوم الحركة والفراغ وعلاقتهما بالمشاهد وتصوير المناظر الطبيعية، وحركة الناس والعمران المدني.
وكذلك أشارت إلى انتقال المُخرج السينمائي برحلته إلى الديكور الداخلي للأماكن العامة والبيوت. وبالتالي، يتحول المشاهد من جالس على مقعده في دار السينما إلى سائح يتجول في فضاء الثقافة والتمايز الحضاري.
ذلك التحول في التلقي، يُمكن لمسُ هُويته الجمالية في مشاهد فيلم «رولم» عن مدينة جدة القديمة للمُخرج عبدالإله القرشي.
وتدور أحداث الفيلم في إطار حكائي درامي حول رحلة الشاب عمر نزار، يؤدي دوره خالد يسلم الذي يحاول بعد تخرجه في هوليوود أن يصنع فيلمًا واقعيا عن جماليات جدة. وتنمو حبكة المشاهد حينما تواجهه تحديات لصناعة فيلمه، خاصة بعد لحظة دخوله مع رفاقه بيت الأنتيك، ويلتقي فيه المُخرج المخضرم العم فريد – ذا السبعين من عمره – والذي يقدمه شاهر القرشي.
على مدى دقيقتين في «رولم»، يستهل المُخرج مشاهده عن مدينته جدة التي يعرفها تمامًا كما يعرفها أهلها في مشاهد واقعية شعرية وفق انتقالات بصرية «Transition» سريعة آسرة تجمع بين مشهد لليل جدة وهي نائمة، وإطلالة خيوط الشمس وهي تتسلل إلى شبابيكها، ثم الحمام وهو يحط في الساحات باكرًا، وشارع الذهب، والأزقة، وسوق جدة القديم، وبازارها، ومحل الكوا، وأحياء جدة ومدارجها وقططها، ومشربياتها، ومحل العطارة، ثم البائعين وجلساتهم، والعجانة، ومنارة الجامع.. ثم انتقال لميناء جدة، وقواربها الزرقاء وبحرها المُشع، وصياديها، وعودة لحركة الازدحام، والخبازين، وألعاب الأطفال ثم سبيل الماء للقطط، وأرصفة الحارات القديمة المتراصة، وبائعي الفضة، والقصابين، وبائع البقالة، والخياطين، وراعي الحمام، ثم ساحات الألعاب، والأحصنة، فالبناء المعماري الحديث، وبائع الخردوات، وبائع الحبحب، وتجمع الأعراق المختلفة، والخباز، وصانع الفخار، والحارات.. البيوت العتيقة.. أهالي الحارات.. شاطئ جدة الحديث.. باب البنط.. أكشاك البيع.. ثم سور شاطئ جدة.
ويلاحظ أن ظهور تلك الانتقالات بين المشاهد المكانية وحركتها، وفق مؤثرات بصرية تقدم اللقطات، ما بين خبو، أو إزاحة، أو تلاشٍ تدريجيًا ربط بينها المُخرج بسلاسة تجذب سمع المُشاهد عبر أثير مناجاةٍ بصوت حجازي يتشابك مع صوت الفراغ في مدينة جدة القديمة، وحركة الحياة فيها.
ولعل تلك المشاهد فتحت آفاقها واحدة تلو الأخرى خلال أحداث الفيلم عبر ساعة و27 دقيقة من الرواية الحميمية عن جدة المدينة، والهُوية، والأصالة، والروح التي تجمع بين تجربة المخضرم السينمائي فريد، والمخرج الشاب عمر، رغم الفارق الزمني بينهما: أربعون عامًا!
وعودة لجوليانا برونو التي ترى أن الهدف من نقل تلك المشاهد السينمائية لأحياء المدينة وطُرقها، والسير فيها، هو البحث عن زمن المدينة المعاصرة، ومدى تداخلها مع معمار الدور السينمائية.
ولعل مقولة بول فيرلي: «منذ بداية القرن العشرين، أصبحت الشاشة ساحة المدينة»، تفسر ما دأبه السينمائيون في تصوير المدينة بشوارعها وساحاتها وناسها؛ كي تُنقل كلها إلى شاشة السينما. ليقدموا حياة المدينة من منظور مصطلح «التصوير من واقع الحياة».
باحثة دكتوراه مهتمة بالدراما والسينما