مشاعل عبدالله
حينما نستعيد صور طفولتنا من الذاكرة ربما صادفتنا ذكرى محاولة تقمص شخصية المعلم وإلقاء التوجيهات على أقراننا، وكفتيات كانت لعبه “الحريم” هي تجربتنا الأولى لمحاكاة عالم النساء والتعبير عن ذواتنا الأنثوية. أمَّا لعبة عريس وعروسة، فربما هي رؤيتنا كأطفال للعلاقات بين البالغين.
في ثلاثينيات القرن الماضي أثارت هذه الألعاب الطفولية الفضول في ذهن بيتر سليد وقادته إلى نظريات جعلت منه رائدًا من رواد العلاج بالدراما. ارتاد بيتر مدرسة داخلية صارمة، فكانت قسوة المعلمين هي أزمته اليومية، فكان الخلاص من هذه الأزمة من خلال محاولاته مع زملائه في الصف القيام بتجربة. وهي اختلاق مشاهد تمثيل يقوم فيها الطلاب بقتل المعلمين، فيصبح العالم أفضل وأجمل. هذه الذكرى وملاحظته عن تصرفات الأطفال بالشارع قادته إلى نظريته الخاصة عن لعب الأطفال، والتي تتضمن نوعين من اللعب أو التمثيل. النوع الأول، وهو التمثيل الإسقاطي الذي يمكن الطفل من تحسين مهارات التركيز. والنوع الثاني، هو اللعب أو التمثيل الشخصي الذي يتضمن اللعب الشخصي بالجسد، وهذا النوع يتيح للطفل التعرف على ذاته بشكل أقرب، ومن ثم زيادة الثقة والمهارة والإتقان.
أمضى بيتر 60 عامًا من حياته في بناء نظرياته تجاه العلاج بالدراما، وتثقيف المعلمين، وتجارب الأداء في مسارح المدارس المختلفة.
قبل بيتر بسنوات كان عالم النفس جاكوب مورينو، مهتمًا بالعلاج من خلال الدراما، منبعه اهتمامه بالمسرح أبو الفنون. وبما أننا في سياق الحديث عن المسرح يجدر بنا ذكر مسرح المخرج والكاتب المسرحي الروسي قسطنطين ستانيسلافسكي الذي توفي عام 1983، والذي اهتم بتقديم أعمال تشيخوف وغوركي وتولستوي الذي أسس خارطة الطريق للممثلين من خلال كتاب “إعداد الممثل”، وشرح فيه قواعد التمثيل والأداء المسرحي. ستانيسلافسكي كان يركز في منهجه على أهمية القدرة على التخيل، وإسباغ روح التجربة، والعقل الواعي، والإلهام، وتجسيد المعاناة.
هذه العناصر التي استند عليها ستانيسلافسكي في رحلته لإعداد ممثل متمكن، هي ذاتها التي يستخدمها المعالجون النفسيون في تجربة العلاج بالدراما التي تستهدف مساعدة الأفراد على اكتشاف وحل مشكلاتهم الشخصية والعاطفية والاجتماعية.
أعمال ستانيسلافسكي، والكاتب والمخرج الفرنسي أنطونين أرتو، والألماني برتولت بريشت، ألهمت بعض المصحات النفسية في أوروبا لاستخدام تجارب الأداء المسرحية ضمن طرق العلاج داخل أروقتها، بعد أن كانت تستخدم في القرن الثامن عشر كوسيلة ترفيه.
العلاج بالدراما يتخذ صورًا وأنماطًا متعددة، مثل الدمى المتحركة، واستخدام الظل والأقمشة للتعامل مع المشاعر، أو معضلة العلاقات، أو التعبير بالجسد ولعب الأدوار؛ لخلق بيئة خيالية أو خلق مراحل متعددة لحدث واحد لتطوير طريقة التواصل مع الذات أو مع الآخر، أو عملية لبس الأقنعة للتعبير عن الذات بحرية. وهذا يذكرنا بالمشهد الشهير بين فاتن حمامة وعمر الشريف في فيلم “نهر الحب” من إخراج عز الدين ذو الفقار عام 1960، وهو تجربة تمصير لرواية “آنا كارنينا” لليو تولستوي. كانت الحفلة التنكرية هي فرصة نوال “فاتن حمامة” للتحرر من قيود حياتها الصارمة التي سن قوانينها زوجها طاهر باشا “زكي رستم”، هذا المشهد هو صورة عن تأثير الدراما في خلق روح التحرر لدى الفرد.
يرتكز العلاج بالدراما على مهارات متنوعة كمهارة رواية الحكايات أو القدرة على التخيل، كل هذه العوامل توضح لنا أن هذه الطريقة من العلاج لا تعتمد على التواصل اللفظي فقط لاستكشاف وفهم الأفكار، أداة فعالة للتعبير من خلال مساحة آمنة. فمثلاً المخرج البولندي جيرزي غروتوفسكي ركز في تجربته على أهمية الجسد كوسيلة للتعبير والتواصل، وأن جسد الممثل لا يقل أهمية عن النص المكتوب، وهذا المفهوم من المفاهيم الرئيسية التي يقوم عليها مذهب العلاج بالدراما. الجسد كأداة تعبيرية يستطيع من خلالها الممثل إيصال الفكرة للمشاهد، هو محور نظرية المسرح الفقير لغروتوفسكي، التي يرى فيها أن المسرح لا بدَّ أن يعود إلى الأصول البدائية للتعبير الإنساني من خلال المسرح والاستغناء عن المؤثرات كالإضاءة والموسيقى والأزياء. المسرح في نظره يحتاج إلى ممثل بارع يستطيع التعبير عن أفكار المجتمع ومتفرج، أمَّا ما عدا ذلك، فيمكن الاستغناء عنه. هذه النظرية تجعلنا نتذكر تاريخ المسرح اليوناني والتعبير عن الأساطير من خلاله، وأن هذه الفنون التي عرفها الإنسان قديمًا من مسرح ونحت ورسم هي محاولة الإنسان للتعبير عن ذاته ورؤيته للعالم، أو كما قال أرسطو في كتاب “الشعر” إن المأساة، ويقصد بها المأساة اليونانية، أو الدراما الشعبية التي تمثل في مسارح اليونان وتصور تراجيديا مبنية على قصة حقيقة أو شخصية عظيمة تمر بظروف قاسية؛ هي محاولة أو تجربة أحداث التنفيس وإطلاق المشاعر العميقة، خاصة الخوف والشفقة لتطهير حواس ومشاعر المشاهدين.
تأثير العمل الأدبي الضخم “ألف ليلة وليلة” على الوجدان الإنساني عظيم، لذا تم استعارة جملة “افتح يا سمسم” الشهيرة في قصة “علي بابا والأربعين حرامي” لتكون اسم المنهج الذي اعتمدته ماريان ليندكفسيت “Sesame approach” للتعبير باللغة غير اللفظية كاللمس والحركة والصوت للكشف عن الكنوز داخل مغارة النفس البشرية. اعتمدت ماريان في مذهبها على أفكار السويسري كارل يونغ في اللاوعي الفردي والجمعي، وأعمال المجري رودولف لابان في فن الحركة وتحليلها. كان لابان من رواد الرقص الحديث في أوروبا، وأسس منهجًا يعتمد على حركات جسد الفرد، استنادًا إلى دوافعه الداخلية ومشاعره وعلاقته بالآخر والفضاء المحيط به.
لا تنحصر مميزات العلاج بالدراما في مجال التعبير عن المخاوف والتحرر من الأفكار السلبية، لكنها تحسن من ملكة الخيال، ومهارات الاستماع والإنصات، وترفع من معدل الوعي العاطفي للفرد، وتحسن من المزاج، وتخفض من معدلات القلق والاكتئاب لدى الفرد. وتوجد دراسات تدعم تضمين العلاج بالدراما في برامج علاج طيف التوحد.
توجد الكثير من الجامعات في بريطانيا وشمال أميركا تمنح الدرجات العلمية في هذا التخصص للاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين. وفي مجال التأهيل الطبي يمكن لاختصاصي العلاج الوظيفي الحصول على درجات علمية في هذا المجال.
العلاج بالدراما طريقة تفاعلية لا تكتفي بالتعبير من خلال الحركة والنص المكتوب، ولكن أيضًا من خلال النقاش عن الأفلام ومحاولة تحليل المشاعر. وهناك تجربة في الوطن العربي تستحق الإشادة، هي تجربة المخرجة اللبنانية زينة دكاش، التي قامت بإخراج أفلام تستهدف معالجة السجينات اللبنانيات في سجن “بعبدا” دراميًا، فأخرجت مسرحية “شهرزاد ببعبدا” لتقوم بعد ذلك في عام 2013 بتوثيق يومياتها مع السجينات وكواليس التحضير للعمل المسرحي معهن في فيلم “يوميات شهرزاد” الذي حصد العديد من الجوائز مثل جائزة أفضل فيلم وثائقي ضمن المهرجان الدولي للفيلم الشرقي بجنيف، وجائزة حقوق الإنسان في المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بأغادير، وجائزة صلاح أبو سيف في مهرجان القاهرة السينمائي. تأخذنا زينة والسجينات إلى تجاربهن مع العنف والعلاقات الفاشلة والأمومة المنتهكة والعاطفة المستنزفة.
تبدو السجون بكل ما تحتويه من حكايات خلف قضبانها والقيود المفروضة على الإنسان داخلها، فضاء واسعًا للتعبير وللمعالجة بالدراما. ففي نفس العام الذي أخرجت زينه عملها قام ديفيد ميكنزي بإخراج فيلم “Starred Up”، وكتب النص الدرامي جوناثان آسر عن تجربته كمعالج في السجن.
فيلم “procession” الذي أخرجه روبرت جرين عام 2021، ويحكي قصة 6 أشخاص يتعرضون للاعتداء الجنسي من قبل قساوسة كاثوليك، يستخدم في مجال المعالجة بالدراما للتحرر من هذه التجربة القاسية. وتم الاحتفاء بهذه التجربة على نطاق واسع، وتحدث المخرج عبر لقاءات تلفزيونية عن هذه التجربة بتفصيل وإسهاب.
الأفلام الدرامية التي تركز على أهمية الحب والعلاقات العاطفية تستخدم على نطاق واسع في جلسات التعافي من الإدمان على الكحول أو المخدرات، وذلك لتعزيز هذه القيمة وإيجاد معنى وهدف للفرد؛ لأنه غالبًا ما يرافق الإدمان فشل في العلاقات. والأفلام التي تمنح الأمل أن الحياة قد تبدو أجمل بعد التجارب الفاشلة مثل فيلم جوليا روبرتس “eat ,pray, love”، تستخدم ضمن جلسات المعالجة للأشخاص الذين يعانون من مشاكل الانفصال العاطفي، أو فشل الحصول على وظيفة، أو الإحباط.
في السينما المصرية أعتقد أن فيلم “خرج ولم يعد” للمخرج محمد خان، يستحق أن يكون على شاشة المعالجين؛ لأنه فيلم يعبر عن الحياة ومعانيها، ويمنح الفرد الأمل أن غدًا أجمل، وأن التفاصيل الصغيرة في الحياة هي نِعم لم نستشعرها لانغماسنا في حياة صاخبة. هو فيلم يدعونا للبدايات التي ربما نهرب منها، ولكن الجمال يكمن خلف أسوارها. الفيلم أعمق من صراع المدينة والقرية، هو دعوة لفضاء مفتوح من التجارب.
وإجابة عن السؤال المطروح في العنوان: رغم انحيازي لمدرسة فرويد في التحليل النفسي، فإنني سأختار خوض تجربة العلاج بالدراما، الذي – للأسف – غير مطروق بكثرة في العالم العربي سواء من خلال بعض التجارب أو المجهودات الفردية.