سلطان القثامي
في فيلم «سطار» من إخراج عبدالله العراك يثأر «سعد» وهو شاب ميسور الحال وعلى أعتاب الزواج لشغفٍ لازمه منذ الطفولة وهو نجومية المصارعة الحرة. ويظهر بطل الفيلم هنا موظفًا مهمشًا في شركة تأمين ويقبض من عمله حد الكفاف. فاعتاد ندب حظه وسوء حالته المادية في ظل تردّي أوضاعه المعيشية بسبب الغلاء العام في أسعار الخدمات والعقار في مدينة الرياض. وبينما يتعرض سعد للاستغلال من مديره في العمل لا ينتهي شقاؤه عند هذا فحسب، بل تتداعى أوضاعه الاجتماعية عندما تسوء علاقته المتوترة بأم خطيبته المتضجرة من ضعف حالته المادية وقلة حيلته خوفًا على مستقبل ابنتها. وفي خضم صراعه اليومي يلتقي سعد شخصًا رث الهيئة يدعى «علي هوغن» يزعم أنه مدير أعمال ناجح في المصارعة الحرة. وسرعان ما اقتنع سعد بالعمل معه من أجل حلم طفولته بأن يكون مصارعًا ناجحًا وجديرًا بالثراء، الأمر الذي سيعينه أيضًا في سداد تكاليف الزواج. لكن عالم المصارعة الذي ينتسب إليه سعد مخفي عن الأنظار وترعاه جهة مجهولة بشكل غير قانوني وبعيدًا عن الرقابة الرسمية. يخوض سعد تدريباته اليومية تحت إشراف مدربه «عبدالقادر»، يتضح لاحقًا أنه عضو في جهة رقابية ويعمل متخفيًا لكشف ملابسات هذا العالم الخفي والقبض على المصارع الأشهر هناك «أولمبيا». يتمكن سعد من الفوز بالبطولة عقب انكساره العاطفي إثر انفصاله عن خطيبته بإلحاح من أمها، لكن سرعان ما ينال الرضا ويلتم الشمل بعد إهداء خطيبته «فلوة» شنطة الأموال التي ظفر بها من فوز النهائي.
حاول الفيلم إبراز ما يمكن وصفه بواقع «المدينة المهيمنة»، وأعني بهذا الواقع الذي يبرز فيه الأثر النفسي للمدينة الصناعية ودورها في تشكيل صراع الفرد بين الواقع والمأمول، وهو تأثير نعيشه ونشعر به، لكن يصعب علينا معالجته. ولأن النقد ركن أساسي في الحركة السينمائية وصناعة الأفلام أريد التأكيد هنا على وجوب التفريق بين التفوق الشعبي الذي حققه الفيلم في شباك التذاكر والمستوى الفني لنصّه السينمائي. ففي الوقت الذي أجاد الفيلم في دمج الصوت (المكساج) ورسم الشخصية وسرعة الإيقاع الملازم للكوميديا، لم يُبدِ بدرجة كافية النضج السينمائي في حبكته وهيكله الدرامي. عُرفت الكوميديا تاريخيًا بقدرتها على الاستيلاء العاطفي، ولكن الكوميديا الحقيقية لا تضحّكنا فقط، بل توقظ فينا التفكير؛ لأن الغرض من الكوميديا ليس السخرية من المواقف والأشخاص، بل تعزيز التغيير المراد من مناقشة القضية. شكَّل الفيلم ما يسميه الناقد الأميركي كينيث بيرك “الإطار الهزلي”، وهو الوعي الساخر الذي لا يكون ملطّفًا للقضية ولا فاضحًا لكل كواليسها، فيعطي المتلقي مساحة للتفاعل والتفكير، وربما الاقتناع. لكن لم يجد الفيلم في محاولته السينمائية معالجة واقع المدينة المهيمنة، فسطّحت حواراته علاقة الإنسان بالبيئة وآلية تطويع المدن الحديثة لسلوكيات ساكنيها، وكيف يتحكم هذا الواقع في صقل شخصية وهوية الفرد البسيط في المدينة الصناعية. سعى الفيلم كسابقيه من إنتاج «تلفاز ١١» في خلق تجربة محلية تشبهنا بالرغم من فكرته المستوردة، واعتمد بشكل ملحوظ على مهارات شخصياته في الكوميديا، التي تتباين في الإجادة من شخصية لأخرى. ربما هَدَفَ الكاتب من تركيزه على المصارعة إلى أن يعكس الأثر المتنامي للعولمة داخل المجتمع السعودي، وكشف حدود الصراع بين الداخل والخارج. فالمصارعة هي «حادثة رمزية» في قاموس الناقد، وهي ليست كل الحدث، بل تغلّف عالمًا وواقعًا خفيًا لا تستطيع الكوميديا الفنية إظهاره للمتلقي حتى لا تفقد متعتها.
اجتهد الفيلم كثيرًا في تتبّع الكيفية التي يعالج فيها الأفراد أحلامهم. فالمصارعة تاريخيًا هي إحدى تجليات الحلم الأميركي، لكنها في «سطار» تظهر كما لو كانت ممارسة «اقتصاد خفي» وليست السبيل المشروع لتحقيق الأحلام. وهنا نستذكر في سبعينات القرن الماضي، كيف مثّل المصارع الأميركي دستي رودز شخصًا من الطبقة الوسطى يصارع لتحقيق أحلامه الكبيرة ولقب نفسه «الحلم الأميركي» واشتهرت مقولته “أوجد حلمك وتمسك به وصوّب نحو السماء” بين جمهور هذه الرياضة.
والموضوع ليس موضع جدل في نظري، بل الكيفية السينمائية التي سطّحت المعاناة الإنسانية في النص لصالح النزعة الكوميدية للشخصيات. فظهرت الكوميديا كما لو كانت هي المحتوى والهدف، وليس الأسلوب المعني بالتواصل الجاد مع المشاهد. وبالتالي استند السيناريو في بعض مشاهده على الارتجال غير المتسق بدلاً من حياكة الكوميديا في حبكة مترابطة ومتسقة تتطور مع البناء الدرامي للعمل. وفي نظري أن هذه التجربة ليست بجديدة في إنتاجات «تلفاز ١١»، إذ اعتدنا رؤية مشهد أو سلسلة مشاهد كوميدية متكررة يعوزها قصة موحّدة يستند إليها الفيلم. أعزو هذا الأمر لسببين: الأول هو الإرث الكوميدي لـ«تلفاز ١١» في مجال صناعة الأفلام، وهذا أمر طبيعي. والآخر هو غياب النص القوي، وهذا الأمر تتشاركه معظم الإنتاجات السينمائية في السعودية، وهذا ليس بمستغرب أيضًا قياسًا بالتجربة القصيرة في مجال صناعة الأفلام. وعند أخذ هذا في الحسبان لا يجب التقليل أبدًا من دور الفيلم وكادره في دعم الإنتاج السينمائي ومناقشة قضايانا المحلية، بل على العكس تمامًا، يجب الثناء على الإمكانات التي قدمها الفيلم سواء في قصته أو أدواته الفيلمية.