محمد عبدالله الأنصاري
في العوالم السينمائية سريعة الخطى داخل هوليوود، حيث تُحدد المواعيد النهائية غالبًا مسار الأفكار والتوجهات الإبداعية، توجد مجموعة قليلة من المخرجين ذوي الرؤية الفنية الواضحة الذين يرفضون التعجل في إنتاج أفلامهم.
صانعو الأفلام مِمَّنْ على استعداد لاستثمار سنوات وحتى عقود في صياغة أفلامهم بدقة، والتعامل مع كل إطار على أنه عمل فني وكل مشهد على أنه عمل من القلب؛ في حين أن المجال في الفترة الحالية يمر بمرحلة الإنتاج الفوري دون التأني والتمعن، ربما يكون تيرينس ماليك أشهر ممارس للأسلوب البطيء والتأملي في صناعة الأفلام، مع تاريخه السينمائي الذي يمتد لأكثر من أربعة عقود، لم ينتج سوى عدد قليل من الأفلام مقارنة مع معاصريه. يشتهر تيرينس ماليك بأخذ وقته لالتقاط جوهر قصصه والمناظر الخلابة في مشاهده، وتعتبر أفلام مثل «The Tree of Life» و«The Thin Red Line» نماذج لأسلوبه الشعري الفريد الذي يستكشف الروابط العميقة بين الإنسانية والطبيعة.
إن منهجه في صناعة الأفلام يشبه الرسام الذي يرسم طبقات وأبعادًا مختلفة وبعناية لإنشاء تحفة فنية فريدة، وفي جانب استخدام الوقت كأداة روائية. المخرج ريتشارد لينكلاتر الذي يتبنى مفهوم الوقت في أعماله، نال شهرة واسعة بفضل ثلاثية «Before» المكونة من «Before Sunrise»، و«Before Sunset»، و«Before Midnight»، التي تم تصويرها في عقدين من الزمن، من خلال إعادة النظر في نفس الشخصيات والممثلين مع مرور الوقت.
يستكشف ريتشارد لينكلاتر تطور العلاقات بطريقة تبدو حقيقية وذات صدى عاطفي، إن تفانيه في تجربة السرد الطويلة الأمد هي شهادة على التزامه بسرد القصص التي تعكس حياتنا اليومية كما فعل في فيلم «boyhood». كذلك فيما يتعلق بجانب الصبر السريالي لديفيد لينش، المؤلف الغامض وراء الروائع السينمائية المختلفة Twin Peaks وMulholland Drive، ديفيد لينش هو مخرج لا يتعجل أبدًا في العملية الإبداعية، تتطلب أفلامه السريالية والمحيرة في كثير من الأحيان تفكيرًا متأنيًا واهتمامًا بالتفاصيل. رغبة لينش في السماح لأفكاره بالتطور مع مرور الوقت دائمًا ما تنتج لنا أفلامًا محيرة وذات أبعاد فنية مختلفة عن السائد في الوسط الفني، ودائمًا ما تدعو المشاهدين إلى التعمق في أسرار عوالمه السينمائية.
وتُعد أعماله بمثابة تذكير بأن السينما الأكثر تميزًا وإبداعًا، هي تلك التي تمت كتابتها وإنتاجها بصبر ودقة. نجد أيضًا فنانين وصُناع أفلام يعتمدون على صياغة التعقيد، التي تتسم بها أفلام المخرج بول توماس أندرسون، العقل وراء فيلمي There Will Be Blood وPhantom Thread. المخرج كبول توماس أندرسون من مخرجي الأفلام الحديثين ويعد مِمَّنْ يأخذ الوقت في البحث لاستكشاف الشخصيات والمواضيع المعقدة، وتبنى أفلامه في الغالب بالسرعة التي تناسبها، وتُخرج بطبيعة الحال أعمالاً سينمائية روائية معقدة وشخصيات متعددة تفوز بقلوب الجمهور، وغالبًا ما تتطلب أفلام أندرسون مشاهدات متعددة لفهم عمقها بالكامل. وفي حين أن هؤلاء المخرجين قد لا ينتجون أفلامًا بنفس المعدل السائد في عالم السينما، إلا أن تفانيهم في فن صناعة الأفلام لا يتزعزع. ويثبت هذا أن السينما العظيمة ليست سباقًا بل رحلة، حيث يكون الوقت عنصرًا أساسيًا في خلق الروائع السينمائية.
الميزانيات الهائلة والتوقعات المرتفعة تجاه صانعي الأفلام الذين دائمًا ما يجدون أنفسهم تحت ضغط هائل لإنتاج فيلم في وقت ضيق.. مع العلم أن هناك صانعي أفلام يستطيعون إنتاج أفلام في ظل جداول زمنية ضيقة، بينما يواجه آخرون الحقيقة القاسية المتمثلة في أن الإسراع في الإنتاج يمكن أن يؤدي إلى نتائج مخيبة للآمال.. مخاطر الإسراع في إنتاج الفيلم للحاق والاستفادة من صناديق الدعم المختلفة، والرغبة في تحقيق عوائد سريعة قد تكون مغرية، إلا أن تكلفة إنتاج أفلام سيئة سواء كانت بميزانيات عالية أم منخفضة على المدى البعيد لا يبني إلا سمعة سلبية واستهلاك الإمكانات والفرص في غير مكانها وزمانها. صناعة الأفلام هي فن يتطلب في كثير من الأحيان الوقت والصبر والدراسة المتأنية، وهناك العديد من الأمثلة التي «تحذر» لما يمكن أن يحدث عندما يتعرض فن كالسينما لخطر السعي وراء السرعة والإنتاج من أجل الإنتاج.
إن السينما هي المركز الذي يلتقي فيه الإبداع والخيال وسرد القصص، ولكنها أيضًا صناعة معقدة وغامضة في كثير من الأحيان. في هذا العالم متعدد الأوجه، يلعب الفنان دورًا حاسمًا ليس فقط في إنشاء أفلام آسرة، ولكن أيضًا في تقديم منظور صريح حول الصناعة نفسها، فالصدق في صناعة الأفلام يمكن أن يترك إرثًا دائمًا. صانعو الأفلام مثل مارتن سكورسيزي، الذي استكشف وباستمرار موضوعات عن الأخلاق والمافيا والطبيعة البشرية، وساهم أيضًا في بناء جيل سينمائي باهر للسينما الأميركية، أو مخرج الأفلام الوثائقية مايكل مور، الذي كشف الظلم المجتمعي؛ قد ترك بصمة لا تمحى على منهجية الأفلام الوثائقية. التزامهم بالصدق لم يكسبهم الاستحسان في الوسط الفني والسينمائي فحسب، بل أثر أيضًا في أجيال من صانعي الأفلام.
إن صدق الفنان تجاه صناعة السينما هو القوة التي يمكنها تشكيل مسار الشكل الفني نفسه، سواء من خلال رواية تلك القصص الأصيلة التي تعكس المجتمع، أو معالجة القضايا داخل المنظومة السينمائية وما يحدث داخلها، وأخيرًا الحفاظ على النزاهة الإبداعية بشكل أساسي.