د. أشرف راجح
في عام 1966 حاز المخرج الإيطالي الكبير «جيلو بونتيكورفو Gillo Pontecorvo»، الجائزة الكبرى بـ«مهرجان فينيسيا الدولي» عن فيلمه «معركة الجزائر» الذي أثار كثيرًا من الاهتمام العالمي بالفيلم، وقضيته العادلة، وبنوع الفيلم السياسي عمومًا. وهو ما أتاح له أن يقدم بعدها بثلاثة أعوام فيلمًا أكثر ضخامة، ومع نجم عالمي فائق هو «مارلون براندو»، فيلم «كويمادا» أو «احتراق» عام 1969، الذي يصور آلية صناعة الثورات والتمردات من قبل القوى الاستعمارية المتصارعة على مصالحها الاقتصادية في بلد كاريبي الغني بقصب السكر. فكرة تكوّن «رياح التمرد» تلك وما تؤول إليه من الممكن على طول امتدادها أن تحيلنا إلى مسرحية سابقة هي «الإمبراطور جونز» للكاتب الأميركي «يوجين أونيل»، ونجد لها صدى أيضًا في إحدى كلاسيكيات السينما العربية الخالدة – التي لم يُلقَ الضوء عليها بما يكفي – وهو فيلم «المتمردون» للمخرج الكبير «توفيق صالح» الذي قدمه عام 1966، باعتبارها دراسة حالة فريدة توازي رائعة «جيلو بونتيكورفو» «كويمادا» – وإن كانت أسبق زمنيًا – حول الميكانيزمات الحاكمة لصناعة التمردات والثورات، وما تؤول إليه الأحوال بعد أن تتحول من «ثورة» إلى «سلطة»، وهل السلطة في حد ذاتها بالضرورة مفسدة لنقاء الثورة؟!
فيلم «المتمردون» يدور في مصحة حكومية لعلاج مرضى السل معزولة في قلب الصحراء في الأربعينيات من القرن الماضي، تحيا على تبرعات المحسنين من الأثرياء. تعتمد إدارة المصحة أسلوب الشدة والإقلال من الغذاء والمياه والدواء، على الأخص في القسم المجاني الذي يحتل المساحة الكبرى من المصحة، ويتم التعامل بحدة من قبل إدارة المصحة التي يرفع مديرها شعار أن الحفاظ على «النظام» هو الذي يضمن العلاج، ويصل الأمر إلى طرد أي من النزلاء يبدي تذمرًا. يبدأ التمرد حين يحضر طبيب شاب حالم مصاب بالمرض اللعين، ورغم أنه يقيم في مكان آدمي ويتمتع بخدمات جيدة، فإنه يتعاطف مع المقهورين من المرضى الذين يتلقون العلاج بالمجان. ويحدث – كما يقال – أن يولد البطل من رحم المعركة، حيث يستطيع أن يقود بالفعل تمردًا كبيرًا يطيح بالإدارة. ونبدأ في متابعة كيف تتحول «الثورة» إلى «سلطة» كي تستطيع أن تدير المكان، وتؤمنه، وتلبي احتياجاته من ماء، وغذاء، ودواء بعد رحيل الإدارة السابقة. يشكل الطبيب مجلسًا به «كيان عسكري»، وآخر «إعلامي»، ممثلين في أشخاص من المرضى ذوي الخبرات السابقة الذين عاونوه في هذا التمرد، ويدخل هو في مفاوضات «سياسية» مع السيدة الثرية التي تمثل المانحين، حيث تبدأ مسيرة مؤلمة من التنازلات، حفاظًا على «السلطة» المكتسبة، تنتهي بعودة الأوضاع السابقة بعد كثير من الخسائر والآلام.
بالطبع الفيلم مليء بالمحطات والمنحنيات والمعارك التي تنتهي بفشل التمرد، وعودة الإدارة السابقة على أسنة الرماح مطلقة الوعود بتحسين الأحوال، تنفيها الضحكات اللاهية للمدير المنتشي بعودته المظفرة، مع رسالة حالمة للبطل يتركها لحبيبته يؤكد لها فيها أنه سيحقق حلمه بالمصحة الإنسانية في مكان آخر بعد أن عرف الطريق. ولكن في النهاية تبقى القيمة في معنى الرحلة كما يقولون.
فيلم «المتمردون» جاءت أحداثه وتقلباته وتحولات مواقف شخصياته لتطرح بصورة سينمائية تعبيرية مثيرة، جدل الثورة والسلطة في تحفة سينمائية خالدة من الممكن قراءتها على أكثر من مستوى.
ليبقى السؤال الإشكالي مستمرًا: هل الثورة بالفعل يخطط لها الدهاة، ويصنعها الشرفاء، ويقودها وينفذها الشجعان، ويرثها ويستغلها الأوغاد، ثم يسرقها الجبناء؟!