مشاعل عبدالله
قد تبدو علاقة السينما بالأدب علاقة وثيقة، لذا يعتبر الأغلبية أن السينما هي النسخة المصورة من السرد الأدبي. لكن لعراب سينما الموجة الفرنسية جان لوك غودار، نظرة مختلفة. يرى غودار أن السينما ليست فنًا يصور الحياة، وأن السينما تقع بالمنتصف بين الفن والحياة! من وجهة نظره أن السينما نقيض للأدب والرسم، فهي تعطي الحياة وتأخذ منها، وأن وجود الرسم والأدب كفن منذ البداية على عكس السينما.
السينما فن يعتمد على عوامل متعددة من سرد درامي، وأداء تمثيلي، وموسيقى تصويرية، وصورة تعبر عن المشاعر. الصورة في السينما تحتل أهمية كبيرة من ناحية تكوين الضوء والظلال وتطور المشاعر، حتى السيناريو الجيد المتماسك هو فن الكتابة بالصورة بدلاً من الكلمات!
تاريخيًا السينما كانت صامتة، والصورة وقتها هي من تتحدث وتعبر! المشاعر التي تباغتنا بعد الانتهاء من مشاهدة فيلم جيد في قاعة السينما، هي ذات المشاعر بعد رؤية لوحة في دار عرض فني أو متحف، من دهشة وألم وفرح وتأمل وخوف وتحليل.. وبحث داخل ذواتنا! من نقاط التقاطع الأخرى بين السينما والفن التشكيلي أن كل متفرج يملك الرؤية والتفسير الخاص به، حتى إن اختلف مع فكرة المخرج والرسم. هذا التفسير نابع من خلفية المشاهد الثقافية وحالته المزاجية.
تبدو صناعة السينما كنشاط ترفيهي نقطة اختلاف في هذه المقارنة بين السينما والفن التشكيلي، بالإضافة إلى أن الفن التشكيلي نشاط فردي، على عكس السينما التي هي نتاج جهود فريق ضخم من الكتابة والتصوير والأداء والمونتاج والإخراج والموسيقى التصويرية، ثم التوزيع.
ألهمت اللوحات المشهورة العديد من المخرجين حول العالم، فحاولوا من خلال عدساتهم خلق مشاهد تشابه أو تحاكي اللوحة، ربَّما لخلق ذات التأثير على المشاهدين، أو هو انعكاس لأثرها على ذواتهم، أو هي محاولة منهم لتكريم هؤلاء الفنانين والاعتراف بجهودهم ومكانتهم.
الثقافة والفنون الإنسانية هي تجربة ومشاعر تراكمية، فكل إبداع بشري يحمل أثر ما سبقه بشكل خفي، ولا يمكننا إغفال تأثير الفنانين أو عزلهم بعضهم عن بعض. تعتبر لوحة العشاء الأخير للفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي من أشهر الأعمال الفنية في التاريخ البشري، وهي توثيق لآخر عشاء احتفل به المسيح مع تلاميذه. هذا المشهد المقدس عند المسيحيين تم استحضاره في السينما بشكل متكرر. البداية كانت مع المخرج الدنماركي كارل ثيودور في Leaves Out of the Book of Satan «أوراق من كتاب الشيطان»، وفي عام 1961 قام فنان السريالية المخرج الإسباني الثوري لويس بونويل باستحضار المشهد في فيلم «فيرديانا» Viridiana. الفيلم كما اللوحة مغرق في الرمزية التي تحتمل الكثير من التفسيرات، وقبل تسع سنوات استحضر المخرج الأميركي توماس أندرسون المشهد في فيلم inherent vice.
عربيًا أعتقد أن هناك مقاربة بين مشهد النهاية لفيلم «موعد على العشاء» الذي أخرجه محمد خان عام 1981 وهذه اللوحة. على تلك الطاولة كانت هناك المكاشفة والتضحية والخلاص والتحرر الذي يذكرنا بالحالة التي خلقها دافنشي في لوحته الشهيرة. لوحة “الصرخة” للفنان النرويجي مونك، هي رمزية القلق والخوف، استعار المخرج الأميركي ويس كرافن ملامحها لخلق مشاعر الخوف والقلق بشكل معاكس للوحة. وهنا تكمن عبقرية الفن لقدرته على القولبة والتغيير، فالفن حالة لا تخضع للقوالب أو القيود. هذا الإلهام لا يكتفي بالحالة الشعورية التي تخلقها اللوحة، لكنه يصل إلى تكوين اللون في الصورة وتفاصيل الجسد ومساحة الظل. يبدو هذا التشابه الذي يصل إلى حد بث الروح في الصورة الصامتة، جليًا وواضحًا في المشهد المشهور لليونادرو دي كابري مع ميشيل وليامز من فيلم «جزيرة شاتر» Shutter Island الذي أخرجه مارتن سكورسيزي؛ الحضور الطاغي للون الأصفر في فستان ميشيل مع حميمة العناق تذكرنا بلوحة الفنان النمساوي غوستاف كليمنت الشهيرة «القبلة». ولمَّا كنا نتحدث عن اللون الأصفر لا يمكننا تجاهل الهولندي فان جوخ، الذي كان للون الأصفر حضور طاغٍ في لوحاته، فمثلاً لوحته «حقل القمح والغربان» نجدها حاضرة بكل تفاصيلها في فيلم “أحلام” للمخرج أكيرا كوروساوا.
رؤية غودار للاختلاف بين السينما والرسم تحتم علينا ألا نتجاهل فيلمه «شغف»passion ، الذي نرى فيه صدى أعمال الفنان الفرنسي دومنيك آنغر، وتحديدًا لوحة «المستحمة الصغيرة». سنجد كل تفاصيل اللوحة في المشهد: النساء العاريات، واللون الأحمر، والتوربان الذي ترتديه السيدة التي لا تجلس بشكل معاكس للكاميرا. غودار سيريالي السينما يستحضر في هذا الفيلم الأعمال الفنية الأوروبية في صور ومشاهد بديعة.
قدرة السينما على خلق الوهم والمشاعر العميقة تتجلى في محاكاة لوحة أوفيليا، الشخصية المشهورة في مسرحية هاملت لشكسبير، ورسمها البريطاني جون ميليه في فيلم «سوداوية» Melancholia للمخرج الدنماركي لارس ترايير. كان أداء كريستين دانست في المشهد الذي يعبر عن النهاية والموت صورة طبق الأصل عن اللوحة رغم اختلاف الألوان.. وكان الموت والغرق يبدوان واضحين وناصعين.
إيحاء الفن التشكيلي لصانعي السينما لا يقف عند حدود محاكاة اللوحات في المشاهد السينمائية، لكن حياة الفنانين بكل تقلباتها وتحدياتها والحكايات التي كانت حولهم تعتبر أرضًا خصبة لكتاب السيناريو. فحياة الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو الصاخبة وعلاقتها بزوجها الرسام دييغو رييرا، كانت محور فيلم مكسيكي أخرجه بول ليروك عام 1984، ثم أتت المخرجة جولي تايمور لتقدمها عام 2002 بفيلم أدَّت فيه الفنانة سلمـى حايك دور «فريدا». في الخمسينيات قدمت السينما حياة فان جوخ في فيلم «رغبة في الحياة»، وفي التسعينيات عرفتنا السينما بالدور الذي لعبه أخوه ثيو في حياته من خلال فيلم «فينسنت أند ثيو». وفي نهاية التسعينيات صدر فيلم «بيكاسو على قيد الحياة»، وعنوانه يشي بالكثير، فنحن نرى بيكاسو من خلال عيون النساء اللاتي عرفهن. يتناول الفيلم الذاكرة والمواقف كشكل من أشكال الحياة. ومن الأفلام التي ربما تحتاج إلى مشاهدته أكثر من مرة، الفيلم الذي يستعرض حياة الرسام مونك، ويتناول معاني القلق والخوف والموت كما تصوره لوحته الشهيرة «الصرخة».
ربَّما تبدو الفتاة ذات القرط اللؤلؤ أشهر سيدة في اللوحات الفنية بعد الموناليزا، قدمتها السينما في فيلم بذات العنوان أخرجه بيتر ويبر، وقامت بتجسيد الدور الفنانة الجميلة سكارليت جوهانسون، في حكاية تعدُّ أحد التفسيرات المتداولة عن علاقة الرسام بالفتاة، فهوية الفتاة مجهولة، لكن الفيلم قدمها في التفسير المتداول عنها، وهو انتصار الفن الفن للمهمشين.
ذاكرة دور العرض السينمائية تحتفظ بأفلام أخرى لم نذكرها، فهل لا تزال السينما هي نقيض الفن كما يراها غودار؟ ربَّما نحتاج إلى مشاهدة فيلم «كلب أندلسي» الذي شارك في كتابته وإخراجه سلفادور دالي وتتبع نشاطه الفني؛ لنجيب بشكل أكثر موضوعية عن الاختلاف بين المخرج والرسام دالي!