غفران قسَّام
عرفت فرنسا «جاك أومون» باحثًا عميقًا في قراءة الصورة سينمائيًّا ومقاربتها مع الفنون الأخرى. فهو يعالج الجانب الوظائفي في الصورة؛ لأنها تؤدي النقل عن الواقع بقوة، لكنها لن تكون مؤثرة إلا إذا نقلت القيم المهمة بالنسبة إلى المجتمع بشكل دقيق. فبالنظر إلى عمل «سليق» السينمائي سنجده لا يتجاوز 10 دقائق «قصير جدًّا»، لكنه نقل بإخراج سينمائي دقيق مواضيع اجتماعية متنوعة في المجتمع السعودي كتأثر كبار السن بسياق التحضر السريع، وتحديات التعايش، مع أسلوب الحياة التقليدية والمعاصرة وتغيُّر العلاقات الاجتماعية في الأسرة.
«سليق» فيلم يفتح شهية صغارنا لصورة الأرز المتلاصق الدافئ! بل يشدُّ ذاكرة الكبار إلى دفء البيت الشعبي في جدة – البلد. وإلى معرفة قصة العائلة التي حضرت صورها في حائط المنزل، لكنها لم تحضر حول مائدته لتناول وجبة الغداء المفضلة «سليق»!
يطرح العمل أحداثه بتكوين مختلف يقوم على فكرة توقّف الحركة في الأفلام الكرتونية animation stop motion. وفي ذلك، صرَّحت المخرجة: أفنان في لقائها مع صحيفة عرب نيوز Arab News، عن تلك التقنية: «نلتقط صورة لكل حركة صغيرةٍ نطبِّقها على الدُّمى. وهكذا حتى يكون لدينا 24 إطارًا في الثانية من الفيلم؛ لنحصل على حركة سلسة تجعلنا نشعر أن المشهد يحدث بشكل طبيعي». فهي فنية وهم الحركة، دخلت بها الكاميرا في العمل – بداية – من مشارف نافذة المطبخ في بيت السيدة هاجر بجدة -البلد، أثناء إعداد وجبة الغداء «سليق». ثمَّ حركة طير الحمام بين النافذة ومطبخها، ثمَّ صورة تجوُّل السيدة لتفقد أدراج الخضروات، ثمَّ صورة عربة بائع الخضراوات ووقوفه وسط الحارة الشعبية أمام نافذة المطبخ، وصورة اختطاف الطفلة الهندية «شمس» ورقة طلبات السيدة وإعطائها البائع، ثمَّ صورة قِدر السليق بعد سقوط كيس الأرز بحركة عشوائية من الحمام إلى صورة فيضان السليق في المنزل… إلخ.
فالإخراج عمِل على فنية اللاحركة لأجل عرض الحركة! ويشتغل على فكرة الدُّمى المتحركة لأجل عرض الشخصيات الكرتونية الملونة! صناعة دقيقة، تضيف لعالم الصورة الرقمية أسلوبًا فنيًّا يجمع بين أصالة الأدوات الاستعراضية وحداثتها! فالفيلم يقدِّم لجمهوره – صغيرًا كان أو كبيرًا – نصًّا رقميًّا مدهشًا في بلاغته؛ لأن صورته قائمة على صناعة مواقع حقيقية للمكان، لكنها مصغَّرة تتناسب مع حجم الدمى؛ تصنع تفاصيل جدة – البلد الحقيقية برسم بيوتاتها وأزقتها وحاراتها، وأدواتها المنزلية، ونقل حواراتها العفوية، ودندناتها وشخصياتها. كما اعتنى الفيلم أكثر بفئة كبار السن، ووقوفهم أمام تحديات التغيير بين خطين زمنيين: زمن الطيبين، وزمن العولمة وسرعة الحياة الرقمية. فما زالت السيدة هاجر تكتب بالقلم الأزرق الجاف قائمة مستلزمات المنزل في ورقة بيضاء صغيرة. وما زال بائع الخضراوات يعلن عن حضوره في الحارة بمزماره! وما زال ضوء المنزل يستمد نوره من الشمس وانعكاسها في ألوان زجاج نوافذ البيت بهندستها المعمارية العريقة. وما زالت السيدة هاجر تدير قرص هاتفها القديم لتتواصل مع ولدها محمود وحفيدتها لولو! وما زال الجيران ينجزون أعمالهم اليومية أمام عتبات منازلهم! بل ما زالت السيدة هاجر تسكن منزلها الشعبي رغم فراغ حارتها من السكان الأصليين وانتقالهم إلى الأحياء الحديثة في المدينة. هو خطاب التعايش! تعايش كبار السن مع تحديات الحداثة، وألفتهم مع تفاصيل مكان النشأة والطفولة والبلوغ والنضج فالشيخوخة، ومدى مقدرتهم على مواجهة أثر الحياة الرقمية في المدينة.
ولعلَّ نوعية إخراج فيلم «سليق»، أتاحت له أن يكون أول فيلم بفنية توقُّف الحركة في الأفلام الكرتونية animation stop motion سعودي يفتتح مهرجانًا سينمائيًّا عربيًّا «وهو مهرجان الأفلام السعودية 2023»، وكذلك ترشيحه عالميًّا في مهرجان «آنسى الدولي» في فرنسا. إذ شهدت المملكة العربية السعودية في حقبة مبكرة، اهتمامًا بصناعة الأفلام المتحركة «الأنيمي»، لكنها لم تدخل عالم السينما مسبقًا. إلا أنها هذا العام قد شاركت عالم السينما بثلاثة أعمال نوعية طموحة، منها: فيلم «سليق» لأفنان باويان، وفيلم «وحش من السماء» لمريم خياط الذي فاز بالجائزة.
باحثة دكتوراه مهتمة بالدراما والسينما