رجا ساير المطيري
تستعد الساحة السينمائية السعودية لاستقبال مجموعة من الأفلام الطويلة في الفترة القريبة المقبلة. فبعد أيام من الآن، ستعرض ثلاثة أفلام في مهرجان تورنتو السينمائي، هي: فيلم «مندوب الليل» لعلي الكلثمي، وفيلم «ناقة» لمشعل الجاسر، وفيلم «هجّان» من إنتاج «إثراء» للمخرج المصري أبو بكر شوقي. إلى جانب فيلم «نورة» لتوفيق الزايدي الذي سيُعرض قبل نهاية العام الجاري، وفيلم «هوبال» لعبدالعزيز الشلاحي. هذا، بالإضافة إلى الأفلام المنتظرة التي تستهدف صالات السينما التجارية مثل: فيلم «أحلام العصر» للأخوين فارس وصهيب قدس، وفيلم «شباب البومب» لفيصل العيسى.
هذا الحِراك السينمائي يعدُّ مؤشرًا مهمًا لنمو صناعة الأفلام في المملكة، فبعد أن كنا ننتظر فيلمًا سعوديًا طويلاً واحدًا كل سنتين، أصبحنا نحتفل أسبوعيًا بفيلم يُعرض هنا، وفيلم يُصوَّر هناك، وأفلام تُعرض في مهرجانات كُبرى، وأخرى تستهدف السينمات التجارية، في كثافةٍ إنتاجيةٍ تقول إن «سوليوود» السعودية باتت أقرب من أي وقت مضى، وذلك بعد سنوات قليلة من إطلاق «رؤية السعودية 2030» التي أرست واقعًا إبداعيًا جديدًا تنفّست من خلاله الفنون، وفي مقدمتها الفن السينمائي.
أمام هذا الزخم الإنتاجي تبرز عدة أسئلة: هل الأفلام السعودية الطويلة ذات جودة فنية ملائمة؟ وهل هي الشكل النهائي الذي نرجوه من السينما السعودية؟ وهل هي قادرة الآن على المنافسة الدولية واجتذاب جمهور عالمي؟ وماذا عن المنافسة على شباك التذاكر داخل المملكة؛ هل أفلامنا قادرة على مزاحمة الأفلام الأميركية والمصرية في صالات السينما المحلية، واقتطاع حصة رئيسية من السوق السعودية التي تعد الأسرع نموًا في الشرق الأوسط؟
رغم مشروعية هذه الأسئلة، فإن محاولة الإجابة عنها تقتضي أولاً فهم السياق الذي ظهرت فيه هذه الأفلام، فمن الظلم بمكان أن نطلب من الفيلم السعودي أن يكون – هكذا وفجأة – خاليًا من الشوائب، وأن يظهر من المحاولة الأولى فيلمًا كاملاً ومنافسًا وسط بيئة إنتاجية ما زالت في طور التشكُّل والنمو والتطور. هذا مستحيل، وغير منطقي، وغير وارد في صناعة متعددة الأبعاد، فمن أجل التحسين والتجويد لا بدَّ من تكرار الإنتاج بالنسبة للمخرج الواحد، وللمنتِج الواحد، ولا بدَّ من الاستمرار في دوران عجلة الإنتاج دون الوقوف طويلاً عند المستوى الفني عالي المستوى الذي ننشده جميعًا – حتى صنّاع الأفلام – والذي سيأتي لاحقًا.. حتمًا.
لو أجرينا مقارنة مع تجارب سينمائية دولية ذات ظروف مُشابهة، لوجدنا أن المشروع السينمائي السعودي ينمو بوتيرة متسارعة وفي زمن أقل من أي تجربة أخرى ناجحة، فخلال سنوات قليلة ازدادت شركات الإنتاج المحلية، والشركات المتخصصة في توفير أدوات ووحدات الإنتاج؛ وارتفع عدد الفنيين العاملين في مختلف مراحل الإنتاج، وظهرت عدة جهات داعمة مثل: هيئة الأفلام، وفيلم العُلا، ومهرجان البحر الأحمر السينمائي، ومركز إثراء، وصندوق التنمية الثقافي. إضافة إلى وجود صالات السينما التجارية التي وفّرت أهم عنصر في دائرة الإنتاج؛ العرض، وضمنت وصول الفيلم إلى المستهلك النهائي؛ الجمهور. وإذا أضفنا إلى ذلك، التنافس الواضح بين منصات العرض الرقمية «شاهد” و«نتفليكس” وOSNplus وغيرها، على شراء الفيلم السعودي، فسنكون أمام مُنجز واضح وملموس استطاع المشروع السينمائي السعودي تحقيقه خلال سنوات قليلة، وهو ما انعكس على كثافة الإنتاج المحلي في الفترة الأخيرة.
لو نظرنا – مثلاً – إلى تجربة كوريا الجنوبية المتميزة في صناعة الأفلام، والتي تعدُّ نموذجًا مثاليًا بامتياز؛ لوجدنا أنها احتاجت إلى أكثر من ثلاثين عامًا من الجهد المُنظّم للوصول إلى مستوى التأثير الدولي الكاسح الذي تتمتع به الآن. فقد انطلقت في التسعينيات الميلادية عملية تحرير صناعة الأفلام الكورية من القيود الرقابية، وتم تدعيمها بالأنظمة التي تعزز تنافسيتها أمام الأفلام الأجنبية، لتتنامى بتأثير ذلك أعداد الشركات التي تستثمر في الصناعة، وزادت حركة الإنتاج؛ وهو ما أدى إلى بروز مخرجين شباب سيظهر تأثيرهم الفني الخلَّاق بدءًا من العام 2000م، في مقدمتهم المخرج كيم كي دوك، صانع الفيلمين البديعين Spring, Summer, Fall, Winter… and Spring (2003)، و”3-Iron” (2004)، والمخرج بارك شان ووك، صاحب ثلاثية الانتقام Sympathy for Mr. Vengeance (2002)، Oldboy (2003) ، Lady Vengeance (2005).
ورغم وصول أفلام هؤلاء إلى المهرجانات السينمائية الكبرى في العقد الأول من الألفية الجديدة، فإن الموجة الكورية احتاجت إلى عشر سنوات أخرى لكي تصل إلى مستوى التأثير الشعبي العالمي، وإلى عشر سنوات إضافية لكي تفوز بأوسكارها الأول، وبسعفتها الذهبية الأولى، مع فيلم Parasite (2019) للمخرج بونغ جون هو.
تقول لنا التجربة الكورية المُلهمة إن الزمن هو العنصر الأهم في النمو والتطور. وفي صناعة كبيرة مثل السينما لا يمكن حرق المراحل بسهولة، والقفز على الواقع، وانتظار نتائج مثالية من المحاولات الأولى. لقد بدأت السينما في كوريا الجنوبية قبل نحو 100 سنة، وانتظرت حتى مطلع التسعينيات لتنتقل من طور الجهود الفردية العشوائية إلى العمل المؤسسي المُمنهج، الذي أثمر بعد ثلاثة عقود من الإنتاج المستمر تأثيرًا دوليًا كاسحًا.
صناعة الأفلام ليست مثل بقية الفنون الأخرى التي يُمكن لفردٍ واحد فيها أن يُحقق حالة نجاح مستقلة، في زمن محدود. فإذا كان الروائي الخلَّاق يستطيع الوصول إلى التأثير العالمي وحدَه، وبجهده الذاتي، مهما كان مستوى الأدب في محيطه، ومهما كان مستوى المعيشة والتقدم في بلاده، وإذا كان للرسام وللموسيقي وللشاعر ذات الإمكانية؛ فإن صانع الأفلام تحديدًا يحتاج إلى عناصر أخرى خارجية تُساعده على إنجاز أفلامه، من دعم، وتمويل، وبيئة إنتاجية متكاملة، وفنيين وكوادر بشرية، ومسارات للعرض والتوزيع، ومن دونها لن يذهب بعيدًا مهما كان وعيه ومهاراته. وهذا ما يجعل من صناعة الأفلام صناعةً مُعقَّدة ومُركَّبة ومُتداخلة، ولا يمكن تطويرها إلا بتضافر كل هذه العناصر مجتمعة.
في ضوء التجربة الكورية، والزمن الطويل الذي استغرقته، يمكن القول بثقة إن المشروع السينمائي السعودي يسير أيضًا بثبات وتركيز نحو أهدافه الكبرى. فالعناصر التي تحتاجها الصناعة، ويحتاجها صانع الأفلام، بدأت بالتشكّل والنمو في الداخل السعودي خلال السنوات الأربع الماضية بدعم رسمي كبير. ثمَّ إن الأفلام السعودية الجديدة في مجملها ذات مستوى فني جيد نسبيًا، وهي لا تحتاج إلا إلى الزمن لكي تتحسن وتصل إلى الكمال المنشود، وإلى الصبر لكي ينضج صُنَّاعها من الفنيين في كافة التخصصات.
وعودًا على سؤال: هل ما نراه الآن هو الشكل النهائي الذي نرجوه من السينما السعودية؟ الجواب: ليس بعدُ بالطبع. لكن المهم أن الصناعة تسير بشكل صحيح، وتنمو في كافة الأبعاد. وإلى أن يصل الفيلم السعودي إلى الأوسكار الأول، وإلى مستوى الجاذبية العالمية، والأرباح العالية، لا بدَّ من استمرار وتيرة الإنتاج وتنميتها، ورفع نسبة الاستهلاك محليًا، وذلك من خلال العمل بمبدأ “الكمُّ أولاً وقبل أي شيء آخر”، لأنه الذي سيضمن إرساء أُسس الصناعة، وسيُساعد على خلق مناخ تجاري مُربح تتوفر فيه كافة العناصر التي تحتاجها خطوط الإنتاج. ومن عمق هذا المناخ سيخرج – حتمًا – الإبداع الذي ننتظره جميعًا، ولن يستغرق الأمر ثلاثين عامًا مثل الكوريين، بل إلى مدة أقصر بكثير، والمؤشرات الحالية تؤكد ذلك.