د. أشرف راجح
مارست السينما المصرية الاقتباس والتمصير من السينما الغربية كمصدر شرعي لأفكارها على مر عقود دون توقف، ولكن هذا لم يمنعها من أن تضع شخصيتها وبصمتها المحلية النابعة من ثقافتها على ما تقتبسه «هذا في أفضل الأحوال». حتى إننا نرى نموذجًا غريبًا لفيلم واحد شهير هو فيلم «صراع تحت الشمس Duel in the sun» للمخرج كينج فيدور، وهو فيلم ينتمي لنوع أفلام الغرب الأميركي «الويسترن» ويتضمن صراعًا عاطفيًا حادًا، قدم عنه «في حدود ما أحصيت» منذ عرضه الأول عام 1947 خمسة أفلام متنوعة الأجواء والصراعات، على مدى خمسة وعشرين عامًا. بدأ بفيلم «نهاية حب» لحسن الصيفي عام 1957، ثم «امرأة في الطريق» لعز الدين ذو الفقار في العام التالي، و«نداء العشاق» ليوسف شاهين عام 1960، يليها «شوق» للمخرج أشرف فهمي عام 1976، وأخيرًا «الأقوياء» لأحمد السبعاوي عام 1982. وبالطبع، إذا نحن قارنا هذه الأفلام بالفيلم الملهم، فسنجد العديد من التشابهات، وأيضًا مثلها وأكثر من الاختلافات، إلى جانب اختلافاتها هي نفسها بعضها عن بعض. المقصود أن استلهام الأفلام الأجنبية «وليس استنساخها» أمر غير ممجوج في حد ذاته، وإنما كيفية التعامل مع هذا الاستلهام وخلق البيئة الفنية المناسبة له، هو الفيصل في إنتاج فيلم جيد أو أقل جودة.
ونتوقف هنا عند فيلم «حلاوة روح» للمخرج سامح عبدالعزيز عام 2014، المأخوذ عن فيلم «مالينا Malena » للمخرج الإيطالي الكبير جيوزيبي تورناتوري، الذي من الممكن أن نربطه أيضًا بفيلم أميركي أقدم هو «صيف 42» Summer 42 للمخرج روبرت موليجان عام 1971، والذي يدور حول غرام صبي مراهق بزوجة ضابط غائب لمشاركته في الحرب العالمية الثانية. فيلم «مالينا» تدور قصته حول امرأة وحيدة فاتنة «مونيكا بيلوشي» تحيا في بلدة صغيرة في أجواء الحرب العالمية الثانية في غياب زوجها الموجود على الجبهة، مما يجعلها فريسة لعيون الرجال المتطلعين ولأحقاد نساء البلدة اللاتي يخشين على أزواجهن، ولا يحرسها من هذا الجحيم سوى صبي مراهق يعشقها ويؤمن بطهرها. في «حلاوة روح» لدينا الفاتنة «هيفاء وهبي» والرجال المتطلعون والنساء الحاقدات والصبي المراهق المفتون، بل والمشاهد الكبرى Master Scenes المماثلة للفيلم الإيطالي من وجود شبه محاكمة شعبية للفاتنة، وأيضًا اغتصابها…إلخ، أضف إلى هذا – كميزة أخرى للفيلم المصري – الرقص والأغاني غير الموجودة في الفيلم الأصلي. فما الذي جعل من «مالينا» تحفة فنية كبيرة، وقاد «روح» إلى أن يكون فيلمًا من أقل أفلام المخرج سامح عبدالعزيز، رغم الجهد الفني الكبير المبذول به إخراجًا، والتصوير المميز والإضاءة الدرامية لزكي عارف.
السبب الرئيسي بكل بساطة هو غياب الظرف الزماني والمكاني، فالحارة المقدمة في الفيلم «كعادة الميلودراما التي تميل إلى التبسيط»، هي حارة معلقة في الفراغ، لا نعرف أي شيء عن طبيعتها أو طبيعة الفترة الزمنية التي تدور بها الأحداث. هي حارة مجردة تمامًا، لا تعدو إلا أن تكون أشبه بأنبوب اختبار كبير يضم عددًا من الرجال الشهوانيين أو القوادين، مضافًا إليهم مجموعة من النساء العاهرات أو المتواطئات، وضعن معهم كعنصر تجريبي نشط لإجراء تفاعل لتلك الفاتنة طاهرة الذيل التي لا تمس «روح»، وذلك الصبي المفتون بها! وأدت تركيبة شخصية روح «البريئة جدًا» كما رسمت في مقابل صورة هيفاء «الشقية جدًا جدًا» كما نراها أمامنا، إلى تحايل الكاتب «علي الجندي» كثيرًا – مع كل محبتي وتقديري له – لتقديم مشاهد الرقص المثير في الفرح باعتبارها حلمًا لروح! أو استخدام لقطة صورت بالصدفة لها وفهمت خطأ، كمبرر لاغتصابها وخروجها مهانة، ولكن مرفوعة الرأس كذلك من الحارة!
في «ميلينا» أتاح الظرف التاريخي والجغرافي والمكاني أن نتابع ما حاق بميلينا من تطورات قادتها بالفعل للسقوط والعمل كعاهرة للجنود الألمان لفترة، قبل أن تنتهي الحرب ويعود زوجها بإصابته، ويسير مع زوجته في ذات البلدة التي لفظتها، ويتعامل معها الجميع بألفة وكأن كل شيء قد ذهب مع رياح الحرب التي تخرج أسوأ ما في البشر. أما في «روح»، فقد جاءت عباءة الميلودراما التبسيطية تلك لتهدر الكثير من الجهود الفنية اللافتة، ويأتي على رأسها الأداء الخاص للممثل الصبي – آنذاك- «كريم الأبنودي»، لنرى «روح» تفتح بابا مضيئًا يخرجها من الحارة المظلمة في صورة تعبيرية رمزية فارغة لا تقودنا إلى أي شيء. لأننا لا نعرف عن روح سوى أنها «أنثى مهيضة الجناح»، ظلمتها حارة مكونة من الأوغاد بلا أي استثناء «حيث لا يوجد بها شخص طيب وحيد!»، وحتى النهاية السعيدة التي أدمنت الميلودراما تحقيقها للبطلة المنكوبة تعويضًا عن معاناتها طوال الأحداث امتنع الفيلم عن تقديمها لنا، ربَّما لأنه لم يكن يعلم أنه كان يقدم لنا أساسًا «ميلودراما»!