تركي صالح
لغز النفس البشرية من الألغاز المستعصية، وحالات البشر منذ الخليقة متغيرة ومتقلبة ومتعددة الأسباب. والاستئناس بالجماعة مثلما هو حاجة عند أغلبية البشر، فالعزلة أشد احتياجًا عند البقية. ولعلَّ التاريخ العربي يحفل بالكثير من الشخصيات التي اعتزلت العالم، وعاشت حياتها أو بقية حياتها في عزلة. والشعر العربي كذلك يحفل بقصائد عظيمة تصور حياة الصعاليك (وهم قوم اعتزلوا القبيلة أو الجماعة).
استحضرت هذا الموضوع وأنا أتابع فيلم land (الأرض)، وهو فيلم أميركي من إخراج وبطولة Robin Wright. يحكي هذا الفيلم قصة امرأة تنعدم الصلة بينها وبين العالم بعد حادث مأساوي يُودي بأسرتها. هذا الحادث الذي نتج عن إطلاق عشوائي للنار في ساحة عامة – نكتشفه في ثنايا الفيلم – وتسبب في جرح نفسي تستدعيه الذاكرة، لكنها تقطع كل علاقة لها بالعالم، وتتجه لكوخ في منطقة نائية بعيدة عن البشر وخطوط الاتصال (ترمي هاتفها المحمول في سلة المهملات قبل ركوب السيارة). لكنها لا تلبث كثيرًا حتى تتعرض لصعوبات، إذ تفقد مؤونتها وتقترب من الهلاك قبل أن يجدها صياد بالصدفة، فتنشأ بينهما مودة وألفة تعيدها للتفكير في العالم. هذا مختصر قصة الفيلم الذي نناقشه هنا من ناحية الموضوع والمعالجة.
يُشار إلى أن الفيلم هو التجربة الإخراجية الأولى لروبين في السينما، وهو تحدٍّ من ناحية التقنية، ومن ناحية أنها تقوم بدور البطولة. وقد نجحت – في رأيي – في تقديم نفسها عبر عمل صعب يعالج موضوعًا وبيئة عمل صعبة، إذ تدور معظم لقطات الفيلم في منطقة جبلية صعبة التضاريس والمناخ (جبال وظروف جوية متقلبة)، لكنها تغلبت على كل هذا، وقدَّمت فيلمًا ممتعًا ارتكز على تقديم حالة البطلة النفسية عبر الحركة دون الارتكان إلى حوارات أو (حديث نفس) كما يتوقع المشاهد عند مشاهدة مثل هذه المواضيع. فمثلاً، كانت الحوارات نادرة في الفيلم، واعتمدت في عملها على إحساس الممثلين وشعورهم بالشخصية أكثر من التعبير عنها، خاصة فيما يتعلق بالصياد (دميان نجري) الذي برز كقديس (كما تقول المخرجة في لقاء لها).
إن هذا الفيلم يعدُّ مثالاً ناجحًا لأفلام العزلة، وهو موضوع نادر في السينما العربية، ولم يتم التطرق إليه إلا عبر لمحات بسيطة في بعض الأعمال دون عناية ولا إبراز؛ مع أنه من مواضيع الحياة المدنية الحديثة، وربَّما مشكلاتها هي ما يتوجب طرقها ومعالجتها.
يقول الشاعر العربي:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوَّت إنسان فكدت أطير