رجا ساير المطيري
في موقف ذي دلالة، ظهر مغني شيلات «مُراهق» في لقاء يوتيوبي ليتحدث عن أعماله الشعبية الناجحة، وواجه سؤالاً مُحرجًا عن «شيلة» تغنَّى فيها بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين. يقول السؤال: كيف لك أن تُغني عن شخصٍ قصف بلادك بالصواريخ عام 1990م؟ وكشفت علامات الدهشة والصدمة والذهول التي بدت على وجه هذا المغني الشاب، الذي لم يبلغ السادسة عشرة من عمره، ما نحن بصدد الحديث عنه هنا، وهو أن هناك جيلاً سعوديًا يافعًا، غارقًا حتى أخمص قدميه في طوفان التقنية، ويجهل الكثير عن تاريخ بلاده القريب، وعمَّا واجهه الجيل الذي سبقه من مواجهات وصراعات وتحديات وجودية؛ خصوصًا على المستوى الداخلي مع تيار الصحوة الذي ملأ حياة السعوديين تطرفًا وضجيجًا على مدى ثلاثة عقود.
زمن الصحوة كان زمنًا مأزومًا وكارثيًا، أعاق التنمية، وحارب التقدم، وعطَّل البلاد، ووصل تأثيره المدمر إلى المجتمع؛ إذ شوَّه العلاقات الاجتماعية البسيطة، وألبسها مفاهيم الولاء والبراء، والجماعة الصالحة، و«جاهلية القرن العشرين»، حتى افترق الابن عن أهله، واضطربت علاقة الأخ بأخيه أو بصديقه المنتسب للصحوة. أمَّا العلاقة بالمرأة، فحدِّث فيها ولا حرج؛ إذ كانت الحرب على المرأة من مرتكزات الخطاب الصحوي المتشدد الذي مارس تجريفًا اجتماعيًا هائلاً يُريد به بسط هيمنته أولاً، وتأكيد سلطته، ثم خلق المجتمع الطوباوي الذي يحلم به.
لو سألت أي سعودي عاش تلك الفترة، لسرد لك قصصًا ومواقف شخصية عدة. سيحكي لك الشاب عن الشك الذي كان يحاصره من كل اتجاه، وعن «المحتسب» الذي يرصد همساته. وستحكي لك الفتاة عن انعدام فرص المستقبل أمامها، والحصار المفروض عليها، بسبب ضغط الصحوة الذي حشر حياة المرأة في نطاق ضيق لا تتجاوزه إطلاقًا. سيُحدثك المثقف عن حملات التخوين التي واجهها، ووصمة الليبرالية التي طاردتهُ اعتسافًا! أمَّا المسؤول الحكومي، فسيتلو عليك سيلاً من القصص المحزنة عن الإرجاف والتجييش الذي كان يواجه أي قرار تنموي يخدم البلاد والعباد، إذا ما اعتقد التيار الصحوي أن هذا القرار يُهدد نفوذه. وأضف إلى ذلك قصص المواجهات المحتدمة مع الإرهاب والإرهابيين، والتي جاءت ثمرةً منطقية للخطاب المتطرف.
كل هذه القصص الحقيقية، وغيرها، تُعدُّ زادًا وفيرًا لصانع الأفلام والمسلسلات يستطيع التقاط ما شاء منه لدراسة حالة المجتمع، أو حالة الشخصية، أو التأمل في العلاقات الإنسانية في بيئة متطرفة، أو مجرد توثيق سينمائي لمرحلة تاريخية عاشها المجتمع. ومع ذلك، لا يبدو أن هناك من يرغب في الاقتراب من تلك الفترة، بدعوى واهية تقول إن «تلك أمة قد خلت»، وإن الصحوة فترة وانتهت ولا ينبغي فتح الجرح مجددًا بعد أن تجاوزه المجتمع. بعض من يقول ذلك يقوله عن نية صافية، ومقاصد «طيبة”. لكن بعضهم من المُريدين السابقين – وهم الخطر – لا يُريدون للشيطنة المستحقة للتيار الصحوي أن تنتقل للأجيال الجديدة، ويسعون لإيقاف الحديث تمامًا عن تلك المرحلة، وخلق مرحلة صفرية مُحايدة، وجديدة، تبدأ من الآن؛ يُسرِّبون فيها ذات الأدبيات الصحوية، ويُعيدون تقديمها بلباس حديث، عبر أقنية رقمية جديدة، مثل: البودكاست، ومنصة التيك توك، وغيرها من المنصات التي تستهدف الصغار.
قياسًا بما تعرض له المجتمع السعودي في العقود الثلاثة الماضية، فإن ما ظهر من أعمال سعودية عن التشدد ليس كافيًا. ففي الأفلام لا يكاد يُذكر سوى فيلمي «عود» و«المسافة صفر» لعبدالعزيز الشلاحي؛ والفيلم الوثائقي «نساء بلا ظل» لهيفاء المنصور، وفيلمها الروائي «وجدة» بالطبع؛ وفيلم «وسطي» لعلي الكلثمي؛ وفيلم «الشقة رقم 6» لحسام الحلوة. وفي الدراما التلفزيونية هناك عدة حلقات في سلسلة «طاش ما طاش»، ثم الحلقة الشهيرة «بيضة الشيطان» في مسلسل «سيلفي»؛ إضافة إلى مسلسل «العاصوف». لكن هذه الأعمال – جميعها – من حيث الكمِّ لا تكفي لتعرية الصحوة وزمنها البائد، كما أنها من حيث الموضوع لم تذهب أبعد من السطح، وتناولت «أعراض» الصحوة ومظاهرها، ولم تحفر في العمق بحثًا عن جذور المرض الذي عانى منه المجتمع فترة طويلة، والذي أصاب الصحويين بلوثةٍ نفسية يصعب الشفاء منها!
يقول لنا التاريخ إنه عندما تنتهي أي مرحلة زمنية مهمة، فلا بدَّ أن تعقبها عين الفنان بالرصد والفحص والتحليل والتأمل. ليس الفنان السينمائي فحسب، بل أيضًا الروائي والشاعر والرسام والموسيقي؛ إذ تتضافر الفنون في خلق ذاكرة فنية حية ترصد هذه المرحلة وتوثقها من زوايا مختلفة، وعبر أبعاد مختلفة؛ تُكوِّن في مجموعها مرجعية تاريخية لكل من أراد أن يفهم حالة الإنسان الذي عاش في تلك المرحلة وواجه أهوالها. رأينا ذلك في قضية فيتنام التي لم يتوقف الحديث عنها في السينما الأميركية حتى اليوم. وفي الحركة الديمقراطية الكورية في الثمانينيات التي ما زالت سينما كوريا الجنوبية تتناولها إلى الآن. وأيضًا في السردية البريطانية للحرب العالمية الثانية التي بدأت بالظهور المكثف منذ العام 2010م وإلى اليوم، عبر أفلام متعددة تتناول تأثير تشرشل، وتأثير معركة دونكيرك، ودور بريطانيا في الحسم العسكري، في مشروع سينمائي يبدو مُوجَّهًا، من أجل تعزيز الفخر الوطني البريطاني، وتقديم منظور مُغاير للمنظور السينمائي الأميركي الذي سيطر على صورة الحرب العالمية الثانية لعقود.
كل ذلك يقول إن الفنان السعودي، سواء صانع الأفلام والمسلسلات، أو الكاتب والأديب، ومن خلفه شركات الإنتاج والمستثمرين؛ يعيشون حالة كسل غير مسؤول، وغير مبرر، وغير واعٍ بالدور الذي ينبغي القيام به أمام مرحلة زمنية مهمة جدًا في التاريخ السعودي الحديث لا يجوز نسيانها بأي حال من الأحوال.
إننا نرفل اليوم بحياة أفضل في كافة الاتجاهات بفضل «رؤية السعودية 2030»، ولن يستشعر قيمة المنجز الذي تحقق إلا من عاش مآسي الصحوة، ورأى بعينه حجم التغير الرائع الذي طال جميع أوجه الحياة. لكن، ماذا عن الصغار واليافعين الذين لم يدركوا هذا التغيير، ولم يقتربوا من زمن الصحوة، ويعتقدون أن حياتهم المثالية التي يعيشونها الآن هي هكذا منذ الأزل؟ لمثل هؤلاء لا بدَّ من الأفلام والمسلسلات باعتبارها القالب الفني المقبول والمطلوب من هذه الشريحة العمرية. الفيلم أو المسلسل بطبيعته المتعددة الأبعاد، يستطيع استيعاب المشاعر والأفكار والاختبارات الأخلاقية والصراعات التي واجهتها الشخصيات التي عاشت زمن الصحوة، ويستطيع نقلها بطريقة موحية ومؤثرة للمشاهدين الذين لم يحيوا ذلك الزمن.
إن تصوير «زمن الصحوة» سينمائيًا ليس اختيارًا، بل واجب يفرضه المنطق التاريخي أولاً، ثم مسؤولية الفنان أمام مجتمعه. فإمَّا أن يقوم بذلك، أو فلننتظر جيلاً شابًا يعيش لحظته الرائعة، دون أن يُدرك الثمن الذي تطلَّبه الوصول إلى هذه اللحظة. جيل غارق في التقنية، لا يرى أبعد من «بث” تيك توك، ويعيش بذاكرة هشة ومحدودة، قد تجعله في يوم قادمٍ يُصدم ويُفاجأ عندما يروي له أحدهم ويلات تيارٍ بائد يُدعى الصحوة، مثلما صُدم ذلك المُغني المراهق عندما علم بأن صدام حسين قد قصف بلاده ذات يوم.