هيفاء هبة
مربعٌ صغير، صورة مشوشة، بهاء، ألوان، صوت يكاد لا يصل، ذنب! متعة، وحياة إضافية.. هكذا نتذكر التلفاز في طفولتنا حيث جاءنا من المستقبل كسفينةٍ فضائية، هذا التعطش للمشاهدة، التشوق لسماع نهاية قصة، الاندهاش والسفر بأعيننا إلى أقطابٍ وأرضٍ لا نعرفها.
قبل التلفاز كنا نسقي فضول الخيال بحكايات الجدات، وبالمغامرات التي يسردها أحد المتوهمين بأشياء لم تحدث. لطالما كان عيب الإنسان أنه يعتاد، يتناسى لهفة المرة الأولى! تذكرها عندما تصيبك الرتابة أثناء عملك القادم. منذ الأمد كانت الموهبة تخص المرء وحده، هو من يصقلها، هو من ينميها، وهو من يعمل على تأسيسها، فردًا واحدًا.
لكن اليوم مع ثورة الحضارة التي نمر بها لا ينبغي لشخص أن يعمل وحده؛ العمل الجماعي هو المفتاح لكل الأبواب المغلقة، خصوصًا في الأعمال الفنية. فطوال السنوات التي كتبت فيها وحدي عندما بدأت بالكتابة كمهنة حقيقية، كان عليّ التخلص من كل الفردية التي تتطلبها الكتابة الحرة، وكان هذا مشوارًا صعبًا، وحتى أدرك فقط مفهوم الكتابة الجماعية أخذت وقتًا أطول. فعلى الإنسان أن يتعلم حتى يُنتج عملاً حقيقيًا عليه أن يستمع لآراء كل المشاركين معه في العمل وأبسطهم، وأعلم أنك لا تعرف من أين يأتيك الإلهام، أو الحل لعقدة ما، أو تفاصيل كادت أن تفوتك.
أشبه دائمًا عملية البحث عن فريق عمل بالبحث عن شريك حياة، فأن تجد من يفهمك، ويشاركك الهدف، ومستعدٌ أن يستثمر وقته وطاقته معك؛ أمر مهم. التناغم الذي يتطلبه ذلك والقدرة على إيجاد من يشاطرك نفس الرؤية، شيء ليس مستحيلاً ولا ضروريًا كذلك. ولكنه بالطبع يظهر على الطاقة التي يتلقاها الجمهور أثناء المشاهدة، وأيضًا لا تتوقع أن يرى أي أحد – بشكل كامل – المنظر “الهدف” مثلما تراه أنت؛ حتى وإن أعطيته عينيك، فلن تكون له ذات الرؤية، ولكن ما تستطيع تحقيقه هو أن تعطيه عقلك… فكرك بكل التفاصيل والمشاعر والروائح التي تتخيلها!
لا يمكن لجسد أن يملك رأسين، وإن أمكن فسيعيش ذلك الجسد المسكين صراعًا لا نهائيًا. فنحن نسيء فهم أنفسنا، فما بالك بالآخرين؟! الذي أشير إليه هنا أنه يجب، ومن أهم العوامل التي تجعل عملك متكاملاً، أن يعرف كل فرد مكانه في الفريق، وكل شخص يدرك أين يقف، وأين عمله في الجسد «العمل» الواحد، حتى يتمكن من العيش بشكل طبيعي.
وقد تتمكن من رد الروح فيه على مر السنوات، وذلك إن وضعت بالحسبان أن الأعمال السينمائية أو غيرها يمكن في الحقيقة موازنتها بطريقة تجعلها أعمالاً تجارية وفنية في الوقت ذاته. شيء يستهدف الجمهور، وأيضًا له عمرٌ طويل؛ لأنه يحتوي على ما يشبه المجتمع اليوم بطريقة تجعل شخصًا في آخر الأرض يرتبط بك «عاطفيًا وثقافيًا» وبأسلوب كتابةٍ متقن ومجهود كافٍ، والأهم الوقت الحقيقي الذي يتطلبه حبك كل عنصر في العمل على حدة.. ومن ثم معًا.
تشارك الفرصة ولا تحصرها في دائرةٍ معينة. الفن يحتاج أن تملك الحنكة على أن تميز الموهبة في الغرباء الصحيحين، وليس في أن تكرر أحدهم؛ لكونه مضمونًا فقط، مبدعًا مغامرًا، خيرًا من عاديٍّ آمن.. كل ما عليك فعله هو أن تعرف فيمن تسكب إيمانك.
دعنا نتذكر أننا نصنع ماضي السينما وأرشيفها المستقبلي، وأننا اليوم نملك القدرة على تعطيل الوقت والدخول في صلب السينما العالمية؛ وهذه فرصة تاريخية متاحة لنا، وبأيدينا نُنشئ أساس وعظام سينما متنبأ لها بعقود من العطاء الإبداعي المختلف.. مما يوصلنا إلى أهمية الفن طوال الزمان على المجتمعات والمبادئ والقناعات التي استخدمها الإنسان، حتى يبدلها أو يقوّمها، عن طريق الراديو والكتب وصولًا للشاشة، بعد أن كانت القصص غير موجودة إلا على أفواه الرحالة. وإن بحثت في بدايات الفن بصورةٍ شاملة، فستجد أن أعمال كل واحدٍ منهم كانت تشبههم هم، تشبه أحياءهم البسيطة وحياتهم… ثيابهم وطريقتهم في الحديث، واختيار القوانين، وحتى تأليف الخرافات كانت تخصهم وحدهم، وهذا ما يشد انتباه العالم؛ أن ترتدي وجهك ببساطة، ثم بعد حين.. يأتي الوقت الذي تُبحر فيه بمخيلتك لتقتحم بداية اختلاق نيويورك في العشرينيات، وأن تمنع الحرب العالمية الثانية، وأن تتدخل لتقطع إلهام “فيلو تايلر” لتمحو التلفاز، لكن أولًا أظهر نفسك للعالم بملامحك الحقيقية، وهذا ما بث الروح في أغلب الأعمال الفنية التي قُدمت للعالم. «الأصالة» كانت عمودهم الفقري، وأقرب مثال هي السينما الإيرانية التي غاصت في شرح نفسها لتأسر الأفئدة.
وأرضنا خصبة ليست عاقرًا، ولها قصصٌ تتلهف على أطراف أصابعها أن تُحكى، وقضايا وتفاصيل ورسائل لم تُنبش بعد. في هذه الحياة الواحدة نملك حيوات عدة تموت ويتحدث عنها أحد، في يدك ماضٍ ومستقبل وحاضر وظروف ومجتمعات مختلفة في مكانٍ.. بل في جسدٍ واحد، جميعهم يجلسون أمامك في أمل أن تعيد خلقهم على ورق.. داخل شاشة.