إيمان الخطاف
ثمة العديد من التفاصيل التي ترافق رحلة ارتياد السينما، من تأمل بوستر الفيلم، إلى شراء “البوب كورن” و”الناتشوز”، مرورًا بالتحكُّم بالكرسي ومد الأرجل إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه.. هذا كله يُشكِّل حالة الانبساط التي يعيشها المتلقي حين ذهابه بحماسة لمشاهدة فيلم ما، معتبرًا نفسه في فسحة لطيفة؛ تُبعده عن منغصات الحياة اليومية.
وعلى الرغم من بساطة وروتينية هذه التفاصيل، التي يشترك بها كل سكان كوكب الأرض، فإن البعض يصر على إفساد هذه المتعة البريئة ببث الشكوك والمخاوف، وافتعال القصص المريبة تجاه كل شيء. ولعلَّ جدلية فيلم “باربي” – المستمرة حاليًا – تبدو شاهدًا جليًا على ذلك. فالفيلم الذي يأتي من بطولة النجمة مارغوت روبي، حُمِّل ما لا يحتمل، وتم تصعيد مضمونه إلى الحد الذي جعل منه قضية محورية في بعض الدول، من المشرق إلى المغرب.
جدلية “باربي” تفتح شهية التساؤل عن ضرورة الحرية في العمل السينمائي، وحق الجمهور في الحصول على المتعة السينمائية الكاملة دون وصاية أو تشويش. وهنا أشيد بعرض الفيلم في صالات السينما السعودية، وعدم الانسياق للآراء المتشنجة حيال الفيلم ومطالبات البعض بمنعه، بما يعكس وعي الجهات الرسمية بأن زمن الوصاية انتهى، وللملتقي الحق بأن يحصل على متعته السينمائية غير المنقوصة، وأن يمارس حقه الإنساني في الاختيار.
فلا يمكن أن ينتعش الإبداع في بيئة تتوجَّس من الفن السابع. أعني هنا الإبداع بشكله الأعم، لأن قيمة السينما لا تقتصر على تزجية الوقت ومضغ البوب كورن؛ بل في قدرتها على توسيع مدارك الخيال، أيًا كان هذا الخيال، خيالًا جميلًا أم رديئًا. وعند العودة للمخاوف التي ترافق أي عمل سينمائي، فدعونا نتفق أن الفن – بصورته المجردة – هو لا يؤثر في سلوكياتنا؛ بل يمنحنا مساحة أكبر للإدراك والتفكير، بمعنى أن الفن ليس أداة أخلاقية لتقويم سلوك المجتمع.
ثم إن إرغام الفنان على إدخال تغيير في عمله، هو أيضًا أمر يتنافى مع الحرية. لذا، لا أعوِّل كثيرًا على عقلية من ينادي بحذف مشهد هنا وجملة هناك، فلا يمكن التعامل مع الفيلم وكأنه ثوب يحتاج إلى تقصير الطول أو قص الأكمام.. ببساطة، إمَّا أن تأخذ العمل الفني على ما هو عليه، أو تتركه؛ وفي كلتا الحالتين، فإن الخيار هو بيد المتلقي وحده.
أتذكر مقولة الروائي جورج أورويل صاحب (مزرعة الحيوان) ورواية (1984): “الحرية تعني إطلاع الناس على ما لا يريدون سماعه!”. لذا، تبدو محاولة البعض في الرجوع إلى عصور المنع والوصاية، مسألة بالغة الطرافة. وحين حضرت عرض فيلم “باربي” زاد يقيني بذلك، لأني وجدت من كان ممتعضًا من تفاهة المضمون، والبعض خرج متململاً في نصف الفيلم. نعم، خرج باختياره، لم يرغمه أحد على ذلك.
ولأن الأفلام غزت بيوتنا، في “نتفليكس” و”ديزني بلس” وغيرهما من منصات رقمية مسبقة الدفع، فإن مئات الأفلام الرديئة والمبتذلة صارت هي الأخرى بمتناول اليد، وصار من سابع المستحيلات أخذ دور الوصاية على المشاهد وتمحيص عروض الأفلام، إلا أن البعض يصر على دفن رأسه بالتراب أكثر من النعامة ذاتها.
واللافت أيضًا أن منع أي عمل هو أكبر دعاية له، لأنه يثير فضول الجمهور وفقًا لقاعدة “كل ممنوع مرغوب”. وهذا ملحوظ في الأفلام والكتب وأي عمل إبداعي كان. أتذكر هنا فيلم “آلام المسيح” الذي أثار جدلاً كبيرًا، ومنع في العديد من الدول عام 2004، ثم حقق أرباحًا عالية. فالفيلم الذي أنفق حوالي 25 مليون دولار، تجاوزت إيراداته على شباك التذاكر الـ600 مليون دولار.
وللكاتب إبراهيم نصر الله، كلام جدير بالتمعُّن في هذا السياق، ذكره في كتابه (هزائم المنتصرين: السينما بين حرية الإبداع ومنطق السوق)، يقول: “كثيرون منا يرون أن كل إنتاج ثقافي أميركي هو هابط بالضرورة، مُعاد ومُسطَّح، وفي هذا التعميم تبسيط مرعب، لأن ثمة أفلامًا كبيرة تُقدم هناك، شئنا أم أبينا”.
دعونا نتفق أن الأفلام لا توجِّه الجمهور ولا تحثه على التصرف بشكل لا أخلاقي أو منافٍ للقانون؛ بل هي عمل إبداعي محض. لذا، فإن أي تكميم لحرية الخيال هو أمر لا يتناسب مع العصر الذي نعيشه، ولا ينسجم مع متطلبات العمل السينمائي الذي يتنفس من رئة: الخيال الحر.