رجا ساير المطيري
في لقائه الأخير مع اليوتيوبر هوغو ترافرز، قال المخرج البريطاني كريستوفر نولان، إن أفضل طريقة للتعامل مع أفلامه هي أن «يعيشها» المُشاهد بدلاً من محاولة فهمها. وهذه إجابة مثالية متوقعة من أي مخرج، بل يمكن اعتبارها إجابة «مبتذلة» في حالة نولان تحديدًا؛ لأنه قالها بشكل تلقائي ودون أن ينتبه إلى أن هذه الإجابة بالذات لا تُناسب أفلامه، ولا أسلوبه السردي الذي لا يسمح أساسًا بالمعايشة الشعورية. فأفلامه عبارة عن ألعاب ذهنية تكاد تكون مجردة، وتزدحم بالمسارات والأزمنة والمعلومات والأفكار التي لا تُتيح فرصة «العيش» والتأمل. وينطبق هذا على فيلمه الجديد “أوبنهايمر” الذي حشد فيه كل ما يُبعد المشاهد عن ملامسة جوهر السؤال الأخلاقي الذي أثاره العالِم الفيزيائي روبرت أوبنهايمر في منتصف القرن العشرين.
يروي فيلم «أوبنهايمر» الملابسات التي رافقت صناعة أول قنبلة نووية في تاريخ البشر، وكان مهندسها الأكبر أوبنهايمر، من خلال إدارته لمختبر لوس آلموس ضمن مشروع مانهاتن الذي قادته الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية لإنتاج القنبلة النووية. يعرض الفيلم هذه الأجواء المحمومة من منظور أوبنهايمر نفسه، ومن زاويته، مستندًا إلى كتاب «بروميثيوس الأميركي» الصادر عام 2005م، وملتقطًا من حياة هذا العالِم الفذ ما يُساعد على رسم صورة كاملة للظروف التي رافقت صراع العقول في الحرب العالمية الثانية، والذي انتهى إلى رُعب مطلق من المستقبل بعد الإعلان الكارثي عن القنبلة النووية في مدينتي هيروشيما وناغازاكي عام 1945م.
يُعرف أوبنهايمر بأنه «أبو القنبلة النووية»، أو بروميثيوس، الذي – بحسب الأسطورة الإغريقية – جلب المعرفة والمهارات للبشر، ومنحهم قبسًا من النار، ونال بسبب ذلك عقابًا مؤلمًا وأبديًا في الجبال القصية. وهو تقريبًا ما آل إليه أوبنهايمر نفسه عقب الحرب العالمية الثانية، حين انقلب على سيرته الأولى وأصبح أخلاقيًا مناهضًا لطموحات الحكومات في امتلاك الأسلحة الفتاكة، النووية والهيدروجينية وغيرها؛ ليُعاقب بسبب موقفه هذا، ويواجه صراعات في داخل بلاده انتهت إلى وصمه بالشيوعية وسحب ترخيصه الأمني، مع نبذه واستبعاده.
هذا الموقف الأخلاقي الذي اتخذه مجرمٌ وهو في غمرة نشوته وانتصاره، هو ما منح أوبنهايمر قيمته التاريخية؛ بإدراكه المتأخر لفداحة ما تم اكتشافه، ورؤيته للشيطان القابع خلف الباب الذي فتحه هو ومساعدوه في مختبر لوس آلموس النووي. إنه الوعي بالخطر القادم الذي جعل أوبنهايمر «يتقيأ» رعبًا، على حد تعبير الدكتور عبدالوهاب المسيري، في معرض حديثه عن لقائه الشخصي بأوبنهايمر في نهاية الستينيات في أميركا.
لم يظهر هذا الإدراك ولا الوعي ولا الرعب من المصير المحتوم في فيلم «أوبنهايمر»، وغاب الاختبار الأخلاقي، والانقلاب القيمي، والصراع مع الضمير الذي أجبر أوبنهايمر على اتخاذ مواقفه الصدامية بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ اكتفى كريستوفر نولان بمجرد الإشارة إلى شيء من ذلك في عدة ومضات خاطفة، ومنها المشهد الذي احتفل فيه أوبنهايمر مع فريقه بنجاح قنبلتي اليابان، حين استمع لصوت داخلي لصيحات الضحايا، وصور الدمار، في اقتراب أول وأخير من هذا المعنى الذي يختلج في أعماقه. وفيما عدا ذلك، فإن الفيلم، بمساراته المتعددة، ومنظوريه الاثنين؛ منظور أوبنهايمر، ومنظور خصمه شتراوس، لم يكن سوى وثيقة تقريرية مباشرة لما جرى في ذلك الوقت، وللصراعات التي خاضها أوبنهايمر مع خصومه من الأفراد والمسؤولين.
يعتمد كريستوفر نولان في أسلوبه السردي على المسارات المتداخلة، وعلى لعبة الأزمنة المتعددة، وبشخصياتٍ مُسطّحة في الغالب، تتأرجح بوضوح وَحدِّية بين ثنائية الخير والشر، حتى وإن حاول منحها عمقًا فلسفيًا وأخلاقيًا وعاطفيًا كما في أفلامه الرائعة The Dark Knight (2008)، وInception (2010)، وInterstellar (2014)، وTenet (2020). وإذا كان هذا الأسلوب الصارم، المُتكرر في كل فيلم تقريبًا، والمركّب إلى حد التعقيد الشكلي، مناسبًا تمامًا لأفلامه السابقة، بأفكارها التي تستوعب التركيب، وتحتمل سيلاً مكثفًا من المعلومات والنظريات والشخصيات والألعاب الذهنية المجردة؛ فهل هو مناسب لفيلمٍ يتناول شخصية مُثقلة بعذاباتها الداخلية مثل شخصية المجرم الأخلاقي الذي يسعى للتوبة والخلاص؛ أوبنهايمر؟
العناية الشديدة بالشكل، والقالب، والأسلوب، ميزة يتمتع بها نولان، ونال بفضلها خصوصيته الفريدة في صناعة السينما الراهنة. إنه مهووس بالشكل، وأفلامه ذات صنعة رائعة إلى حد الدهشة، وقد وصل هوَسه المَرَضي بالإتقان إلى حد تطويع كافة أدواته من أجل بلوغ الحدود القصوى للشكل. فالتفجير لا بدَّ أن يكون حقيقًا، وزمنه حقيقي، ومشهد اصطدام طائرة لا بدَّ أن يكون حقيقيًا أيضًا وأن يُنفذ باستخدام طائرة حقيقية وبالأبعاد الحقيقية.
وهو يلتقي في ذلك مع مخرج مهووس آخر؛ المخرج الأيقوني العظيم ستانلي كوبريك، الذي دائمًا ما يُربط به، ويُقارن به، في المراجعات والقراءات النقدية، إلى درجة اعتبار نولان الخليفة الشرعي لكوبريك لتشابه طريقتيهما في صناعة الأفلام، وعنايتهما الدقيقة بالتفاصيل، ومساهمتهما الفاعلة في تطوير الصناعة. فكوبريك – مثلاً – ساهم في أبحاث تطوير جهاز «ستدي كام» فقط من أجل مساعدته على تصوير مشاهد في فيلم The Shining (1980)، وانتظر سنوات من أجل التوصُّل إلى فريق كندي يُساعده على تصوير مشاهد الفضاء في فيلم “أوديسا الفضاء” (1968).
ومع ذلك، فإن ما يمنح المُعلّم ستانلي كوبريك أفضليته، هو أنه لا يرتهن بأسلوب واحد، بل يُطوِّع الأسلوب ويُخضعه لحكاية فيلمه، ويختار الأسلوب السردي الأمثل للمعنى والمشاعر. ففي ملحمته «أوديسا الفضاء» اختار الأسلوب التأملي المُتمهِّل الذي يسمح للمشاهد بإدراك النظرية التطورية منذ لحظة اكتشاف الإنسان الأول لحدود عالمه البدائي في الأرض. كما صنع فيلمه Barry Lyndon (1975) بطريقة تجعله أقرب إلى لوحات عصر النهضة شكلاً وأسلوبًا ومعنى. في حين اختار إيقاعًا مُلائمًا لحيوية وخِفّة الروح الساخرة لفيلمه «دكتور سترينجلوف» (1964). أمَّا في فيلمه الأخير Eyes Wide Shut (1999)، فقد استخدم «البطء» وصوت المُحيط أو الفضاء الروائي بوعي فائق مكَّنه من الغوص بهدوء وتركيز شديدين داخل المشاعر المضطربة لشخصياته، مستعينًا بالموسيقى الحادة للموسيقار النمسوي جيورجي ليجتي.
كريستوفر نولان الصانع الماهر لا يفعل ذلك في سنواته الأخيرة، ولا يقتدي بأستاذه في الانتصار للمعنى قبل الأسلوب؛ بل يأتي بأسلوب واحد موحد تقريبًا ويُخضع حكاياته المتنوعة له، حتى لو لم تكن مناسبة لهذا الأسلوب. واتضح ذلك في فيلم «أوبنهايمر» الذي حشد فيه أحداثًا وأسماء وأفكارًا وحقائق ونظريات، وسردها بطريقة سريعة لاهثة، وبمسارات وأصوات متعددة؛ مصورًا شباب أوبنهايمر، ورحلته نحو القنبلة النووية، وغرامياته، وطموحاته، ومواقفه، وتجاربه العلمية، ومحاكماته، وصراعاته، وانهياراته، ليبتعد بذلك كله عن جوهر الحكاية؛ أوبنهايمر نفسه!..
لم يقترب نولان من السؤال الأخلاقي الذي أثاره أوبنهايمر في التاريخ الحديث، ولا للسؤال المهم: هل هو مجرم أم مُخلِّص؟ كما لم يسمح للمُشاهد بالاقتراب بشكل كافٍ من شعور العالِم المرعوب من يوم قيامةٍ آتٍ قبل أوانه، ولا مُعايشة همومه وهواجسه الداخلية، وذلك بسبب الأسلوب السردي المكثف والمزدحم بالتفاصيل العلمية والتاريخية، والذي لا يجعل أمام المُشاهد سوى ملاحقة ما يجري أمامه؛ لكي يفهم أولاً، ويستوعب السياق، ويربط الشخصيات والمسارات بعضها ببعض، ويدرك العلاقات بينها، قبل أن يرتقي إلى مستوى معايشة مشاعر الشخصية الرئيسية وتأمل حالتها وأزمتها وتقلّباتها الداخلية. وهذا مثلبٌ حتى وإن سوَّغ نولان ذلك بسعيهِ إلى تجسيد هذه المشاعر بصريًا، باستخدام الصورة والصوت، و«الصمت»، والمونتاج السريع والمتداخل.
لقد قال نولان بهذا الأسلوب كل شيء عن أوبنهايمر دون أن يقول شيئًا ذا قيمة على مستوى المعنى. صنع فيلمه بحِرفية عالية – كما هي عادته – وقدَّم وجبة سينمائية متكاملة، ومتعة بصرية فائقة، وشديدة الإتقان على مستوى الشكل والصورة والصوت والموسيقى. لكنه – ببساطة – اختار القصة الخطأ.