د. أشرف راجح
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وظهور ما يسمَّى بالواقعية الجديدة الإيطالية، اهتزت الكثير من المسلمات السابقة في فن السينما، ووصف «إدوارد بيري»، رئيس إدارة الدراسات السينمائية بجامعة نيويورك – آنذاك – هذا التأثير قائلاً: «لقد أكد قانون صناعة الصور المتحركة والترفيه الأميركي في خيال رواد السينما الأميركية أن الواحد منهم سيرى العالم دائمًا لا كما هو كائن، وإنما كما يرغب أو يتصور». إنها ببساطة مصنع الأحلام. ولكن هذا المصنع قد ينتج كوابيس مرعبة أيضًا كما هو الحال في أفلام «الدستوبيا» التي تتناول رؤى مستقبلية سلبية لمصير البشرية.
هذا القطار «الإنساني» الباقي الوحيد النابض بالحياة – بعد كارثة – نجده في الفيلم الهام «محطم الثلج Snowpiercer» للمخرج الكوري الجنوبي «بونج جوون – هو Bong Joon-ho» الذي صدر عام 2013. والفيلم رغم أنه يتمتع بكافة مقومات أفلام الإثارة والتشويق، جيد الصنع «بالمقومات الهوليودية». غير أنه يرتقي إلى مصاف الأعمال الفنية والفكرية الكبيرة في السينما. هو «دستوبيا» تقدم عالم ما بعد كارثة تغير مناخي «من صنع تجارب البشر» حولت الأرض إلى كوكب ثلجي، وجعلت القطار بعرباته وأقسامه الطبقية الواضحة مجازًا جليًا لحالة المجتمع الإنساني الحديث؛ إذ يستمتع ركاب المقدمة برفاهية تفوق الخيال، بينما يقبع سكان المؤخرة في الظلام يقتاتون على أقراص بروتين من معجون الحشرات! وتأتي ثورة المقموعين في النهاية لتطيح بالمنظومة كلها إلى الهاوية.
الفيلم ككل الأعمال الفنية الهامة من الممكن مشاهدته على أكثر من مستوى درامي واجتماعي وسياسي وفلسفي، بل وميتافيزيقي أيضًا.
يقال إن ثمار الحداثة الغربية قد بدأت حين حلت الفلسفة الطبيعية محل الفلسفة الغيبية، وحلت التجربة محل الوحي، وحلت الإحصاءات محل البصيرة، وحل النثر محل الشعر. ويبدو أيضًا أن الكمبيوتر قد حلَّ محل البصيرة والتنبؤ في العقود الماضية، وحدد للإنسانية مساراتها الحتمية بالفناء. هذا، رغم أملنا في أن الإرادة الإنسانية التي كانت دائمًا تحرك التاريخ، قد تتمكن – أيضًا – من تغيير هذا المصير.
وبالطبع، فإن هذا التوجه العلمي العقلاني لم ينفِ استمرار الأصوليات العرقية والدينية كمفاهيم، وأحيانًا كمذاهب قوية وفاعلة. وعلى أرض الواقع، فإن ظاهرة التطرف العرقي والديني ازدادت علوًا وغلوًا. وعلى نحو مقابل اندفع التقدم العلمي بتسارع متزايد بكل صلف وثقة بنفسه، دون أن يلتفت إلى ما يعطل اندفاعه المحموم، ودون أن يقدم أفكارًا خارقة عن العنصر، أو فيضًا من الغيب الديني، يرضي الحنين البشري البدائي إلى مصادر نقاء الأصل ومجلبات الشفاء والقداسة والبركة.
أما فيما يتعلق بالثورات الاجتماعية السياسية الكبرى التي انتهت إلى تعزيز قيمة وجود الطبقة الوسطى، فقد ارتبطت الآمال بسهولة القضاء على المظالم من خلال قوتها، ولكن مع تقدم الوقت كان شعار «الحرية والإخاء والمساواة»، هذا الشعار الشهير للثورة الفرنسية، يتحول إلى مجرد عبارات طنانة، بينما تحل في العصر الحديث عبودية الأجور والسوق، محل عبودية الأراضي، والامتيازات المكتسبة عن غير حق تفسد مفهوم العدالة، والجيران الدوليون يفترس بعضهم بعضًا من أجل المصالح والنفوذ. وفي المقابل، يتم دفع ثمن باهظ لمزايا التقدم، بسيئات تراكمت، مثل الملوثات الصناعية، والتغيرات المناخية…إلخ. وضاعت «يوتوبيا» نبوءة الثوريين الحالمين في أوائل القرن التاسع عشر بأن يحقق الإنسان حريته الكاملة من خلال التقدم. على العكس، فقطعت التكنولوجيا صلتها بالطبيعة، بل وبإخوانها في البشرية، وبدأت الدولة الحديثة تفرض عليها قيودًا تنظيمية خانقة ومتزايدة. ورغم تلك القيود باتت الفوضى هي قطار الإنسان الحديث الذي يستقله ولا يراه. وانطلقت تلك الفوضى تخترق العالم لتمزقه في أوبئة وأزمات وحروب متتالية، وأصبحت صورة المجتمع الحديث صورة سجن منفرد يبقى فيه الإنسان شعوريًا في حبس إلى ما لا نهاية، يحيا في جو قاتم ويمارس أعمالاً مهينة لإنسانيته، وهو يتطلع لهاتفه المحمول، ويطرح معضلة فلسفية كبرى من الممكن أن نستخلصها من فيلمنا «محطم الثلج»، وتتمثل في الآتي: «إن الحياة ليست عادلة، و لكن إذا أنت ثرت عليها، فستكون أكثر ظلمًا، وربَّما تزول!».