نرمين يسر
التيارات الفنية التي وُجدت في القرن التاسع عشر، حملت بذورًا من أجل الخروج عن الشكل الكلاسيكي للتعامل مع الواقع، وخاصة بين المذاهب الواقعية والطبيعية. وبدأت المذاهب الرمزية والتأثيرية والتعبيرية تأخذ مكانها مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وما حملته من فظائع وأهوال دفعت الفنانين للتعبير بصورة مختلفة.
كان مسرح جيروم أبولنير ومسرحيته “أثداء تريزياس”، ملهمة لبيان الحركة السريالية التي أطلقها الشاعر “أندريه بريتون” ومجموعة من الشعراء والفنانين التشكيليين ومحبي السينما، وكان على رأسهم المخرج “لويس بونويل”، الذي صنع هو و”سلفادور دالي” من أحلامهما العجائبية أول أفلامه بعنوان: Un Chien Andalou “كلب أندلسي” في العام 1929. وهو فيلم قصير صامت لم يكتب له سيناريو، أو حدد له قصة، أو خطوط درامية؛ وإنما الفيلم عبارة عن مجموعة من الأحلام المزعجة والكوابيس المرعبة بطريقة غامضة، إذ إن الصور في هذا الفيلم لا تخضع لقواعد فنية، ولكنها مجموعة من الصور المرعبة والمزعجة أراد الفنانان أن يُحدثا صدمة للمشاهدين، وتدمير القيم الفنية السائدة.
كما هو الحال مع “حيلة فنية” أخرى، وهي وجود الصديق الذي تصبح حياته مسخرة تمامًا لمدة 24 ساعة كمرافق للبطل. ياسين نفسه اشتهر بتقديم دور الصديق/ الجوقة في السينما المصرية، ومثله عبدالسلام النابلسي قديمًا بصورة شبه دائمة، وكذلك محمد هنيدي وأحمد حلمي حديثًا في بداياتهما الفنية. إنها من الحيل الفنية التي تم استخدامها في الأفلام المصرية بغزارة.
اللجوء إلى حيلة الصديق المقرب من البطل، والذي يلعب دور المتحدث الرسمي بالنيابة عنه، يتحدث عنه مع الآخرين ليمرر معلومات لم يستطع الكاتب أن يقدمها من خلال الصورة أو الحوار؛ فيلجأ لتقديمها من خلال الآخرين مثل: الصديق أو الخادم، أو حوار بينه وبين شخصين من الغرباء العابرين التقوا مصادفة؛ كي يتعرف المشاهدون من خلال حوارهم على معلومة سابقة سوف يُبنى عليها أحداث تالية.
في السينما المصرية اهتز المفهوم الأرسطي لترابط المعلومات وتطورها حدثيًا، فأصبح استخدام أحد تعريفات السيناريو – كما ذكرنا – وهو فن تقديم المعلومات، مجرد إلصاق صديق للبطل ملازم له كأنه نتوء عظمي خارج منه، حتى يتسنى للكاتب تقديم المعلومات عن البطل عن طريق الحوار مع هذا الصديق، وكأنه تطبيق مختل لمقولة سقراط الشهيرة “تحدث حتى أراك” بحيث أصبح “تحدث حتى أرى الآخر”! وبغض النظر عن الصورة التي ينتظرها الجمهور لكي يستمتع باستنباط تاريخ بطله في سنوات عمره قبل أن يقف لأداء أحداث حبكة السيناريو الرئيسية، وكافة المعلومات التالية التي تدفع الحدث إلى الأمام.
ليس هناك مجال للمقارنة بين الأعمال التي اضطرت إلى استخدام “الصديق” مثل فيلم “يوم من عمري” لعاطف سالم 1961، واستناد صلاح (عبدالحليم حافظ) في تقديم نفسه ورغباته وتاريخه على صديقه المصور الذي يلتقط صوره منبطحًا أرضًا رغم استمتاعنا بأدائه، وأعمال مثل the God father الأب الروحي 1972 لـ”فرانسيس فورد كوبولا” الذي حصلت فيه شخصية مثل “فيتو كورليوني” (مارلون براندون) رئيس العائلة وزعيم المافيا على قبيلة من الأبناء والأصدقاء والأتباع والمريدين الذين يلتفون من حوله لخدمته وطاعته أو حتى تحديه، ويمثلون بأفعالهم وحواراتهم مرآة متعددة الزوايا عاكسة لأبعاده و مطورة للحبكة، دون الاستسلام لجمل الحوار التي توظف فقط لتقديم المعلومات للمشاهدين كما كان يفعل فريق الجوقة قديمًا، أو الأفلام والمسرحيات المصرية الحديثة.
في الأفلام الجيدة فنيًا يشعر المتلقي بنوع من السلاسة في تلقي المعلومات التي تتضح له بصورة أشبه بالترسيب تدريجيًا، من خلال تفاصيل الصورة والحوار الذكي الذي يسير بتدرج محكم لإيصال المعلومة بحرفية شديدة للمشاهدين. كمثال فيلم المخرج فيليب كوفمان “كائن لا تحتمل خفته” (1988) المأخوذ عن رواية “ميلان كنديرا” الشهيرة؛ إذ نتعرف على أربع شخصيات رئيسية من خلال متابعة مشاهد تتضمن تفاصيل مسموعة ومرئية عن حياتهم دون اللجوء إلى “الآخر”، الذي يروي عن هؤلاء الأبطال وهم: توماس، (دانيال د. لويس)، الذي يتأرجح بين الخفة والثقل، أي أنه شخصية لا طاقة لها بتحمل المسؤوليات والالتزامات، والذي نراه يتعامل على هذا الأساس بدون أن يظهر صديق له يملي علينا طبيعة شخصيته هذه، من خلال علاقته بزوجته “تريزا” المحافظة، وعشيقته “سابرينا”. بالإضافة إلى البروفيسور “فرانز” الذي هو أيضًا على علاقة بـ”سابرينا”.
استطاع السيناريو أن يرسم شخصية كل منهم بدقة وسلاسة تعبر عمَّا يدور بأنفسهم من أفكار مختلفة وسمات متمايزة تجعل كل شخص منهم لا يمت للشخص الآخر بصلة. ونتفهم من خلال جمل حوارية مكثفة طبيعة العلاقات المتشعبة ما بين الشخصيات الأربع، كما وضحنا من خلال المشاهد وتسلسل الأحداث؛ إذ يظهر كل منهم على حقيقته كما أراد السيناريو لهم، فـ”تريزا” محافظة من خلال طريقة ملابسها ونهمها للقراءة، و”سابرينا” الفنانة المتحررة وظهر ذلك من خلال عشقها لرؤية نفسها في أوضاع مختلفة، و”فرانز” المثالي الذي يشبه إلى حد ما “تريزا” زوجة “توماس”. وحين تبدأ المشاهد الأولى في الفيلم كما في افتتاحية رواية كنديرا، نرى “تيريزا” تصلي وتدعو لـ”توماس” بالهداية لنتعرف من خلال صلاتها أنه شخص ملول لا يتحمل “الثقل”. نتابع رحلتنا في استمتاع فني مع شخصيات الفيلم، وتصاعد أحداثه وتعقيداتها من خلال معلومات نتلقاها كمشاهدين بصورة فنية دون وسيط من صديق/ جوقة يمليها علينا!