أمين صالح
في مجتمع أبوي «بطريركي»، متعصب دينيًا، ممجِّد للشوفينية، كابح للنساء، ليس مستغربًا ظهور شخص مجهول، عادي وبسيط، ينتمي إلى الطبقة العاملة، لكنه مشبَّع بالقيم الدينية وحتمية الصراع بين الخير والشر.. شخص ممسوس بالعفة والطهارة، يشعر بأن مجتمعه، وعائلته، والوضع الحالي في الدولة الإسلامية، وكل القيم والتقاليد مهدَّدة بالتصدُّع والانهيار مع بروز قوى الشر والفساد والرذيلة، المتمثلة في العاهرات المتبرجات اللواتي ينتشرن في المدينة المقدسة مشهد «ثاني أكبر المدن الإيرانية، التي تعني: موضع الشهداء. بالأحرى مكان استشهاد علي بن موسى الرضا»، رغم أن هؤلاء النسوة، كما يُظهرهن الفيلم، كائنات ضعيفة، ومهمشة، وضحايا أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، ومزرية؛ دفعتهن الحاجة، والخوف على أبنائهن وعائلاتهن، إلى بيع أجسادهن مقابل نقود قليلة، وفي أجواء مذلة، ومهينة، وقمعية؛ بل يتعرّض بعضهن إلى الطرد والنبذ والتبرؤ من قِبل ذويهن.
وإحساسًا بنفسه، أو تضخيمًا لذاته، كمنقذ ومطهِّر، يشنُّ هذا الشخص وحدَه حملته الدينية لتخليص المدينة من الشرور والآثام والانحطاط، فيقوم بقتل المومسات بكراهية لا حدَّ لها.
فيلم «العنكبوت المقدس» «Holy Spider – 2022»، الذي كتبه وأخرجه الإيراني المقيم في الدنمارك، علي عباسي، يتناول قصة واقعية حدثت في مدينة مشهد الإيرانية، بين العامين 2000 و2001، وتناقلتها وسائل الإعلام، بتغطيات متواضعة لا تتناسب مع حجم وخطورة الجرائم التي ارتكبها مهووس ديني لديه إيمان عميق وقناعة راسخة بأنه صاحب رسالة عظيمة، ولديه تفويض إلهي بتطهير المدينة، يُدعى سعيد هنائي «أدى دوره ببراعة الإيراني مهدي باجستاني»، الذي قتل بالتسلسل، وعلى نحو متشابه تقريبًا في التفاصيل، وخلال أشهر قليلة، 16 امرأة دفعتهن الحاجة لممارسة البغاء، بطريقة عنيفة، وحاقدة.
هو رب عائلة متدينة جدًا. لديه ابن مراهق «علي» وابنة صغيرة. يعمل بنَّاءً. وقد شارك عن قناعة في الحرب الإيرانية – العراقية، في الثمانينيات، وهو يشعر بحسرة لأن الحرب انتهت، إذ يتمنى لو فعل شيئًا عظيمًا لربِّه ولوطنه.
إيمانه العميق يجعله يرى نفسه كمطهِّر، كمخلِّص، كمبعوث من السماء.. غير أن الشيطان يكمن في تلك التفاصيل المروِّعة.
إنه يخرج ليلاً على دراجته البخارية، ويشرع في استدراج ضحاياه وقتلهن خنقًا، من دون شفقة أو اكتراث بتوسلاتهن. ولا يبدر منه لاحقًا أي تأنيب ضمير أو إحساس بالذنب؛ بل على العكس تمامًا، يشعر بارتياح كبير كأن همًا ثقيلاً انزاح من على صدره؛ واثقًا من أنه أرضى ضميره وربَّه ووطنه. في بعض الأحيان، خصوصًا عندما يتشمَّم جثة ضحيته، نشعر بحضور الباعث الجنسي في سلوكه، رغم خفوته. كما أن هناك إيحاءً بانهيار عقلي عندما يتخيَّل أن ضحيته الميتة تضحك عليه. وثمة إشارات إلى جبنه وضعفه وضآلته قياسًا إلى حجم حملته المقدسة.. إلى درجة تجعلنا أحيانًا نرتاب في دوافعه الدينية لنفترض بأنه مجرد وحش سادي يتلذَّذ بقتل النساء.
هو يهتم كثيرًا بمتابعة ما تكتبه الصحف عن أفعاله، بل ويحرص على الوجود في مواقع الجريمة وقت وصول الشرطة لمعاينة الجثث.
في موازاة ذلك، نتابع محاولات صحفية إيرانية شابة، تدعى رحيمي «تؤدي دورها زار أمير إبراهيمي، الفائزة بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان عن هذا الدور. والشخصية هي خيالية مختلقة»، تسعى إلى تغطية الأحداث، والكشف عن هوية القاتل المجهول، مقتنعة بأن السلطات متواطئة معه لأنه ينوب عنها في تطهير المدينة؛ لذلك لا تقوم بمساعٍ جادة في الكشف عن القاتل والقبض عليه. الصحفية تقوم بوضع خطة للإيقاع به، بمساعدة صديق صحفي «اختاره القاتل لنشر تفاصيل جرائمه» وذلك بالتظاهر أنها مومس. وبالفعل تنجح في مهمتها وتوشك أن تقع ضحيةً له، غير أنها تنجو وتبلغ الشرطة عنه.
الواقع القمعي، الوحشي، الذي تعيشه المرأة الإيرانية، إذ هي دومًا متهمة ومدانة حتى لو كانت ضحية، لا نجده فقط في سوء معاملة المومسات وإذلالهن، لكن أيضًا في التعامل المشين مع الصحفية التي تتعرَّض للازدراء، والتحرش الجنسي حتى من الضابط الذي يحقِّق في الجرائم. هذا الوضع لا يقل إرعابًا عن حوادث القتل.
عندما يتم القبض عليه، وتقديمه إلى المحاكمة، يجد القاتل تعاطفًا معه من قِبل عائلته وأصدقائه وأهالي منطقته وعدد من أفراد السلطة، معتبرين إيَّاه بطلًا قوميًا. وهو يتوهم، أو يوهمه البعض، أن محاكمته صورية، وسوف لن يُنفَّذ فيه حكم الإعدام، بل سيتم تهريبه إلى مكان آخر. لكن يبدو أن هناك ضغوطًا من جهات عليا ترى ضرورة تنفيذ حكم الإعدام شنقًا. والفيلم يوحي باحتمال أن يقوم ابنه المراهق بمواصلة الرسالة المقدسة في تطهير المدينة.. إذ ينتهي الفيلم بالصبي وهو يشرح كيفية قتل النساء خنقًا، وهي معلومات نقلها إليه والده.
سبق للمخرج علي عباسي أن حقَّق فيلمًا من النوع المرعب بعنوان «شيلي» «2016»، وآخر بعنوان «حدود» «Border – 2018». في فيلمه الثالث «العنكبوت المقدس» – وهو لقب القاتل – يعتمد عباسي المسار السردي الخطي، من دون تعقيدات أو تداخلات في البناء، ملتزمًا بالواقعية في التناول والمعالجة. الفيلم، عبر كاميرا غالبًا ما تكون محمولة باليد، يبدأ بتتبع إحدى ضحاياه، انتهاءً بمقتلها خنقًا. ثم نرى القاتل في حياته المهنية والعائلية الهادئة والبسيطة. بعد ذلك نتابع تحريَّات الصحفية، القادمة من العاصمة طهران.
وقد صرَّح عباسي أن الفيلم ليس قصة واقعية، بل تأويل للواقع. وأن غاية الفيلم هي أن يروي الحقيقة عبر التأويل القصصي أو الخيالي لأحداث حقيقية. وقال: «كنت أعيش في إيران، وقت وقوع تلك الجرائم. ومثل الآخرين، كنت أتابع الأحداث عبر الصحف، لكنها لم تثر انتباهي إلا حين أخذ قسم معيَّن من المجتمع الإيراني في وصف القاتل بالبطل غير الأناني الذي يخدم مجتمعه، متجاهلين حقيقة أنه مجرد شخص مريض يقتل النساء».
المخرج صوَّر فيلمه، الناطق بالفارسية، في عمَّان، بالأردن، بعد رفض السلطات الإيرانية السماح له بالتصوير في مشهد. وهو إنتاج دنماركي، ألماني، سويدي، فرنسي مشترك.